سورية: النظام والمعارضة وlaquo;الضماناتraquo; الدولية
عبدالوهاب بدرخان
الحياة
تتصف محاولات المعارضة السورية لإعلان وجودها وإثباته والسعي إلى تنظيم صفوفها، في الداخل كما في الخارج، بالجرأة والوعي والاستعداد لتحمل المسؤولية، انطلاقاً من شعور متنامٍ بأن لحظة انخراطها في مستقبل البلد قد حانت. كان بعض السوريين في الخارج بلغ حدود اليأس بل تجاوزها ليوقن بأن مصيره تقرر وحسم، فهو مضطر لنسيان سورية ونسيان جذوره فيها والقناعة بالعيش والموت في المهجر القسري الذي غدا مع الوقت وطناً اختيارياً. لكن بعضاً آخر لم يستطع قبول هذا المصير laquo;المصادَرraquo; إلى حد التفكير والبحث عن أي صيغة للذهاب إلى المحافل الدولية والحصول على إقرار للسوريين بـ laquo;حق العودةraquo; إلى سورية، ليس للمهاجرين فحسب وإنما أيضاً للمقيمين المنفيين والمقصيين في الداخل.
قد يؤخذ تعدد أطياف المعارضة كمؤشر لفوضى محتملة، لكن الشعب كان يعترف دائماً بهذا التعدد، فلا يجهله ولا يتجاهله، أما النظام فأراد دائماً تقديم حزبه الواحد على أنه بوتقة انصهار الشعب وعنوان ولائه للحكم القائم أو خضوعه للأمر الواقع الذي اهتز الآن ولم يعد أمراً ولا واقعاً. التعدد تجربة عيش وتعايش أتيحت للسوريين يوم كانوا يناضلون من أجل الاستقلال، وبرهنوا أنها يمكن أن تنجح، ثم لم تعد متاحة حين راح النظام يقولب حقائق المجتمع ومكوّناته من دون أن يتمكن من تغييرها أو من صياغتها في laquo;علمانيةraquo; جامعة. وها هي انتفاضة الشعب تواجهه بأنه كان يعيش وحده في الوهم الذي اخترعه.
برزت على السطح معارضات معروفة كانت عمّدت نضالها بالدم والدمع والتعذيب في السجون. وبرز أيضاً شبه معارضات معروفة بأنها كانت في خدمة النظام وتريد الآن خوض غمار اكتساب شيء من الشرعية الشعبية لتتمكن من البقاء. ويبدو الجميع كأنه يسابق laquo;الحوار الرسميraquo; المفترض أن ينطلق في العاشر من هذا الشهر، لكن بكثير من التحفظ الذي يجعل مرجعيته تقول إنه مجرد اجتماع laquo;تشاوريraquo; للتوافق على منهجية لـ laquo;الحوارraquo;، ما ترجمته: لاستشراف الممكن والمستحيل... في laquo;الإصلاحraquo;. ورغم أنه ليس معروفاً مَن سيحاور مَن في laquo;الحوار الرسميraquo;، إلا أن المعروف مسبقاً أن تلك laquo;المنهجيةraquo; ستصطدم بمستحيلات كثيرة، لأن الهدف بات التغيير وليس الإصلاح. فالنظام لم يأبه بالتحذيرات الدولية التي نبهته إلى أن الوقت ينفد ولن يعود في مصلحته. فكل قتيل جديد في يوم جمعة آخر كان يرفع سقف المطالبات. لذلك ذهب معارضو الخارج في انطاليا فوراً إلى استجابة دعوة المتظاهرين إلى laquo;إسقاط النظامraquo;، فيما لم يتردد معارضو الداخل في القول خلال اجتماعهم الأول من نوعه في دمشق أن هذا النظام laquo;إلى زوالraquo;.
عودة إلى laquo;المستحيلاتraquo; التي لم يعد هناك مناص من التعامل معها، وإلا فإن النظام لن يتمكن من تغيير مجرى الأحداث. فأي حوار، حتى لو بين النظام ونفسه، إذا كان يبحث عن مخارج حقيقية، لا بدّ أن يعلن بوضوح نهايتين ناجزتين: للحل الأمني ولحكم الحزب الواحد، وبدايتين فعليّتين: للانتخابات الحرّة والمفتوحة بمشاركة جميع الفئات بما فيها المعارضة الحائزة طوعاً وحكماً laquo;حق العودةraquo; من دون قيود ولا إزعاجات، ولرفع يد الأجهزة عن الحريات كافة تحت مظلة الشرعة العالمية لحقوق الإنسان. أما لماذا تُعتبر هذه laquo;مستحيلاتraquo; بالنسبة إلى النظام فلأنها تعني عملياً نهايته. إذ أن كسر الاحتكار البعثي سيعني تضاؤل الحزب الحاكم إلى حزب عادي، بالأحرى إلى زواله. كما أن وجود الدبابات والقوى الأمنية في الشوارع هو ما لا يزال يديم وجوده، أما انسحابها فسيعني تظاهرات مليونية واعتصامات دائمة. ولعل الحشد الذي جمعته تظاهرة حماة في laquo;جمعة إرحلraquo; الأخيرة وخلفيات إقالة محافظها شكلا اختباراً موحياً لما يمكن أن تقدمه تظاهرة من دون إطلاق النار.
بعيداً عن التحليلات لمكانة الأجهزة الأمنية ودورها في صنع القرار فإن الانتفاضة استطاعت أن ترسّخ حقيقة أن الحل لن يكون أمنياً. فهذا رهان سقط. لكن النظام الذي تبلغه التقارير أن قواته لم تفقد سيطرتها لا يرى أنه يواجه مأزقاً حقيقياً يلزمه البدء بالتنازلات. هنا يلوح عنصر الضغط الخارجي وما إذا كان يتسم بأي فاعلية. ورغم أن معارضي الداخل والخارج ينظرون إلى دعم القوى الدولية على أنه إضافي ومساعد للانتفاضة، إلا أنهم يراهنون عليه بحذر ولا يعتبرونه عاملاً حاسماً. وتكاد النظرة الشعبية هذه توازي وتتساوى مع تقييم النظام نفسه لحقيقة الموقف الدولي، بالأحرى الغربي، من وجوده واستمراره. والواقع أن العقوبات الأميركية والأوروبية، رغم ما فيها من تشهير وتقريع للنظام ولرموزه، لم تخرج من إطار تفاهمات دولية سبق تثبيتها بشأن الشرق الأوسط، ومنها اعتبار هذا النظام ضمانة لاستقرار سورية وأن سلوكه حيال إسرائيل ضمان لاستقرار المنطقة وعدم عودتها إلى الحروب الإقليمية.
هذا هو المعطى الذي تستند إليه روسيا في رفضها أن يتعامل مجلس الأمن الدولي مع الأزمة السورية، بالإضافة طبعاً إلى مصالحها الخاصة قي سورية. وهو ما يفسر المخاطبة الأميركية والأوروبية للرئيس السوري كي يبادر إلى الإصلاح أو يتنحى. فالسؤال الرئيسي الذي يتكرر لدى القوى الغربية يتعلق بـ laquo;البديلraquo; وما إذا كان سيلتزم سياسة laquo;الاستقرار الإقليميraquo; نفسها، وإذ يبقى laquo;البديلraquo; غامضاً أو غير مضمون فإن جوهر الموقف الغربي يريد رؤية النظام السوري قادراً على الاستمرار لكنه يجب أن يمكّن القوى الدولية من مواكبته ودعم بقائه. فـ laquo;الضماناتraquo; التي كان، وربما لا يزال، يحظى بها لم تكن تعني قبولاً أو استحساناً لتركيبته وسياساته في الداخل أو حتى للأدوار التي لعبها في دول الجوار. كان يتمتع بالسكوت وغضّ النظر عن ممارساته ضد شعبه لقاء ثباته في التزاماته الإقليمية وطالما أنه يستطيع معالجة مشاكله الداخلية من دون إحراج الضامنين الدوليين.
تأخر المجتمع الدولي في التفاعل مع الحدث السوري، ويُعزى ذلك إلى إعطاء النظام كل الوقت والفرص التي احتاجها لترتيب رد فعله على الانتفاضة الشعبية. وحين تبين أنه فوّت تلك الفرص وأهدر الوقت، مصمماً على الحل الأمني ومتوقعاً نجاحه، راح الارتباك الغربي (والإسرائيلي) يتفاقم، وشعر أطرافه بأن النظام الذي يراهن على الضمان الخارجي - للأسباب المشار إليها ndash; بات هو نفسه يزعزع كل الضمانات، إلى حد أن أحد المراقبين الدوليين استنتج أنه إذا كانت هناك laquo;مؤامرةraquo; فعلاً فهي laquo;مؤامرة على الشعبraquo;، كيف؟ قال إن العقوبات تُفرض على النظام laquo;ليبقى لا ليرحل، أما كيف يبقى فهذا شأنه، وعليه أن يجد السبيل إليه، لكنه حتى الآن لم ينجحraquo;.
صحيح أن laquo;البديلraquo; يشكل عقدة، ولا يزال المعنيون الدوليون يناقشونها على قاعدة استحالة حلّها في القريب العاجل، إلا أن كثيرين منهم شرعوا يتعاطون معها على نحو أكثر تفصيلاً بغية تجريدها من الأوهام والأساطير المتوارثة. ولعل ركيزتهم في ذلك أن المعارضة في الداخل باتت تتحدث علناً عن تغيير عميق وجذري، ما يستوجب مقاربة مسألة سقوط النظام على أنها قد تفرض نفسها على الواقع في أي وقت.
موفق محادين
الخوف من التغيير
العرب اليوم الادرنية
ليست كل الثورات ولحظات التغيير سواء, فاذا كانت السماء صافية في الثورات الراديكالية الواضحة, فان لحظات التغيير والثورات التي توصف بالديمقراطية والدستورية, لحظات معقدة, تختلط فيها الاوراق والحسابات وتتسع مساحة الالتباسات وعمى الالوان, تماما كما يحدث اليوم على الصعيد العربي.
في تشخيص الثورة الشعبية العربية المتواصلة فاننا امام ثورة دستورية تتقاطع فيها مصالح قوى واسعة من اليمين واليسار, ومن بعض العواصم الرأسمالية العالمية الى خصومها من الاشتراكيين والوطنيين والاسلاميين على حد سواء.
وحيث تحتشد هذه القوى, من مواقع مختلفة ضد انظمة الفساد والاستبداد, في المرحلة الاولى من الثورة فانها تصطدم, بالضرورة في المرحلة الثانية, فالطابع السياسي في المرحلة الاولى غير الطابع الايديولوجي في المرحلة الثانية..
وهذا قانون عام لكل الثورات في التاريخ والعبرة بقدرة كل فريق في اخذ الثورة حيث يريد, لكن الثابت هنا هو ان الانظمة الفاسدة الاستبدادية زائلة بالضرورة وغالبا ما تنتهي على طريقة العصابات فما ان تتصدع وتستنزف قواها التقليدية حتى تلجأ الى البلطجية والزعران واصحاب السوابق والتحريض الجهوي والطائفي.. الخ.
وفي تشخيص الخائفين من التغيير في الحالة العربية الراهنة فان القوس واسع ايضا:-
1- اوساط الحرس القديم سواء دفاعا عن مصالح الانظمة نفسها وتركيبتها او عن مصالح خاصة, وتتعقد هذه الحسبة في البلدان المعروف بوجود حساسيات اضافية, جهوية او مذهبية.
2- اوساط من (الحرس الجديد) التي لم تؤسس ثروتها ونفوذها على خيارات (برجوازية) مدنية بل على الفساد والعمولات والعمالة للسفارات والشركات الدولية..
3- اوساط من اليسار واليمين المعارض التي تتسم بثقافة محافظة عموما ومسكونة بحكمة مشكوك فيها..
4- اوساط وطنية لديها مخاوف مشروعة من انفجار البلد على اسس جهوية ومذهبية او سيطرة الامريكان والشركات والعواصم الرأسمالية على مجرى الثورة.. وتخضع الاوساط المذكورة لحسابات من نمطين: الاول, نظرة ميكانيكية احادية لا تلحظ الثورة في الحراك الواقعي واهمية الصراع عليها مع القوى المضادة وتريد ثورة سريعة بدون شوائب..
اما النمط الثاني فهو مشروع تماما بالنظر الى التجربة السياسية نفسها في الحالة العربية, فالوطن العربي مستهدف دائما من الغزاة الامبرياليين الاجانب وثمة سيناريوهات حقيقية لتمزيقه والسيطرة عليه بل وثمة فسحة واسعة لما يسمى نظرية المؤامرة.
بيد ان ذلك لا يجوز ان ينسينا ان الثورة حالة موضوعية بحد ذاتها بعد ان طالت عهود الاستبداد والفساد العربي وان مصالح النظام الرأسمالي العالمي بترميم النظام الرسمي العربي هي ساحة صراع ايضا بين قوى الترميم الامريكية الرأسمالية وبين قوى التغيير الشعبية العربية, ويكفي ان نتذكر على سبيل المثال كيف استفادت الثورة الفيتنامية من تغيير الاحتلال الامريكي لعملائه في سايغون وتوسيع الحريات الديمقراطية لاستيعاب الاحتقانات الشعبية..
وسيكون العرب محظوظين بالتأكيد اذا نجحوا بتوظيف الازمة الامريكية مع عملائها الفاسدين ورفعها الغطاء عنهم.. وهكذا.