عبد الرزاق قيراط

تتعدد المبادرات لحلّ المأزق في ليبيا وتتناقض التصريحات القادمة منها ومن المسؤولين الغربيّين ما يشير إلى مفاوضات صعبة بدأت سرّية ثمّ صارت علنيّة لأنّ إنكارها الذي أُعلِن مرارا لم يعد مجديا.
والمثير فيما تعلنه وكالات الأنباء، أنّ الأصوات التي كانت تنادي برحيل القذافي عن ليبيا خفتت شيئا فشيئا وعوّضتها مطالب بتنحّيه عن السلطة مقابل بقائه في 'أرض أجداده' وعدم تـتـبّـعه من المحكمة الجنائيّة الدولية. ولكنّ الجديد المفاجئ ما جاء في أخبار الأيام الأخيرة عن خطّة مقترحة لتقاسم السلطة مناصفة بين الثوار والحكومة في خطوة تُعدّ تنازلا خطيرا من طرف المعارضة وحلف الناتو الذي تدخّل للقضاء على حكم القذافي و'حماية المدنيّين من هجمات كتائبه' دون أن ينجح في ذلك كما كان يتوقّع في أسرع وقت ممكن.
والمبادرة الأخيرة لا تعتبر مفاجئة لمن تـتـبّع نسق التنازلات التي ظهرت في سقف المطالب لدى الثوار وحليفهم الغربي، ما يعكس حجم المأزق الذي سقط فيه الطرفان المتقاتلان بسبب استحالة الوصول إلى حسم ميدانيّ لهذا الطرف أو ذاك حتّى يمكن الحديث عن منتصر ومنهزم.
والتصريح بذلك النوع من الحسم لا يتيسّر قبل أن نحدّد شروط الإعلان عن هزيمة هذا الطرف أو ذاك. وقوامها أنّ الثوّار مهدّدون بالوقوع في الهزيمة في حالتين اثنتين مقابل فرصتين لانتصار يحقّقه القذافي. بكلام آخر ستكون الحالة الأولى هي الهزيمة أو النصر بالمفهوم الحاسم لصالح هذا الجانب أو ذاك، والحالة الثانية هي النتيجة التي فرضها الجمود العسكري الذي ترجمته معارك الكرّ والفرّ. وهي أشبه بنتيجة التعادل بلغة المقابلات الرياضيّة. وهذا التعادل لا يخدم مصلحة الثوار في شيء، الأمر الذي يضعه في مقام الهزيمة للثوار والنصر الثمين للقذافي، لأنّ ذلك الجمود الذي استمرّ لخمسة أشهر أجبر الغرب والثوار على الاستماع إلى القذافي والرضوخ إلى مطالبه ومن بينها تمسّكه بالبقاء في ليبيا وإلغاء تتبعه جنائيا وضمان حمايته مع أسرته، وهي مكاسب، لا يستهان بها، يسجّلها القذافي لصالحه بعد أن كان مطالبا بالتنحّي ومهدّدا بالتصفية أو المحاكمة على خلفيّة ما نسب إليه من جرائم. وأفضل ما يلخّص تلك المكاسب سياسيّا تصريحات مبعوث الرئيس الروسي ميخائيل مارغيلوف حين قال 'إنّ طرفي النزاع في ليبيا وافقا على الجلوس إلى مائدة مفاوضات بدون شروط مسبقة، للتوصل إلى حل سلمي للنزاع'. فمن المنتصر في هذه المعادلة الجديدة؟ قد نتريّث أكثر قبل التصريح بالنتيجة، ولكنّنا نتوقّع أن نسمع المزيد من التنازلات من جانب المعارضة إذا لم يتفق الجانبان في أقرب الآجال، واستمرّ ذلك الجمود العسكريّ الذي أرهق على ما يبدو حلف الناتو والثوار أكثر من القذافي وكتائبه، فقد تخبرنا وكالات الأنباء في المستقبل القريب عن مبادرة جديدة يقبل فيها الثوار بمنصب شرفيّ للقذافي، ما دامت المفاوضات تتحدّث الآن عن إمكانيّة تقاسم للسلطة بين الحكومة ومعارضيها، ما سيمثّل نصرا سياسيا لا غبار عليه لنظام العقيد الذي استرجع بعضا من شرعيّته بعد التدخّل الروسي بشكل نشيط في حراك سياسيّ يساند النظام القائم في طرابلس ويضمن له موقعا في المفاوضات التي تُعنى بمستقبل ليبيا.
وقد تكون المبادرة الداعية إلى تقاسم السلطة الحلّ الأخير لتجنّب انسحاب يائس من طرف حلف الناتو يؤدّي إلى التخلّي عن الثوار ليواجهوا مصيرهم مع القذافي، ولكنّ ذلك مستبعد للغاية لأنّه سيمثّل هزيمة مدوّية للناتو والحكومات التي ساندت تدخّله ودعّمته سياسيّا وعسكريّا.
ما يحدث الآن هو انسحاب من نوع آخر، تعكسه التنازلات السياسيّة التي يعلنها المسؤولون الغربيوّن تباعا للتغطية على المأزق العسكريّ الذي قد لا يحسم المعركة، حتّى في صورة تلبية مطالب الثوار في الحصول على المزيد من السلاح للدخول إلى طرابلس، مركز السلطة ورمزها، حيث لا ندري حجم العوائق التي تخفيها باعتبارها أخطر مرحلة تسبق سقوط النظام، بما يجعلها مغامرة مجهولة العواقب والتكاليف.
والمؤكّد أنّ الغرب صار عجولا في سعيه للوصول إلى حلّ ينهي المعارك، نظرا لانشغاله ربّما بالطريقة المثلى التي سيجني بها ثمار تدخّله المباشر في ليبيا.
فلا أحد يستطيع أن ينكر سعيه إلى الاستحواذ على نصيب من الثروات نفطا وإعادة إعمار، من طرف الثوار تعويضا عن التدخّل العسكريّ إن حسم المعركة لصالحهم، ومن طرف العقيد القذافي تعويضا عن التنازلات السياسيّة التي تخدم نظامه إن فشل الثوار في الإطاحة به.
وفي الحالتين سيخرج الغرب منتصرا، وتبقى الهزيمة في الجانب الليبيّ شعبا وثوارا ونظاما حاكما. وهي هزيمة بطعم المرارة بالنسبة إلى الثوّار وبطعم الانتصار بالنسبة إلى القذافي إنْ هو نجح في البقاء بليبيا حاكما فعليّا بنفسه أو حاكما رمزيّا بغيره.