عبد الاله بلقزيز

حكمت النظام السياسي في المغرب منذ وضع أول دستور للبلاد في عام 1962 مفارقة مثيرة: التشدد في النصوص (الدستورية والقانونية) والمرونة وأحياناً التسامح في التطبيق . ومن داخل هذه المفارقة كان يمكن لكثير من الهوامش أن تُفتح أمام حياة سياسية مستقرة ومنتظمة إلى حد . من يقرأ الدستور المغربي، في صيغته التأسيسية الأولى وفي صيغه المعدلة إلى حدود ما قبل الدستور المعدل الجديد، أي خلال قرابة خمسين عاماً (1962 - 2011)، قد لا ينتبه إلى الكثير من فصوله التي تقضي أحكامها بإقرار حقوق سياسية ديمقراطية عديدة كالحريات، والتعددية السياسية، والتمثيل، والرقابة على العمل الحكومي، والضمانات القانونية أمام القضاء، والمساواة في الحقوق والفرص بين الجنسين . . الخ، لكن الذي لا شك فيه أن الذي يشد انتباهه أكثر (هو) ما يتمتع به الملك من سلطات عدةو غير مقيدة، خاصة تلك التي يتضمنها الفصل ،19 فصل الفصول في الدستور المغربي . وهذا ما كان في أساس النظرة النمطية إلى الملكية في المغرب كملكية مطلقة .

والحق أنه ليس من اليسير على من يعرف النظام المغربي من الداخل أن يقول باطمئنان إن نظام الحكم الذي ساد في المغرب، قبل الاستفتاء على الدستور الجديد 1 يوليو/ تموز ،2011 هو نظام الحكم الملكي المطلق إلا إذا اختار أن يستنتج ذلك من نصوص الدستور، أو شاء اختزال الدستور في الفصل 19 . وفي الظن أن مثل هذه القراءة النصوصية ليس سبيلاً صحيحاً لفهم طبيعة النظام السياسي القائم، ولا لإطلاعنا على خريطة الممكنات السياسية فيه مما لا نجد في النصوص ما يقابله ويقضي به . وإذا كان في جملة ما تخطئه هذه القراءة أنها تسقط في نزعة اختزالية Reductionisme حين لا ترى في النص الدستوري سوى فصله التاسع عشر، وتضرب صفحاً عما سواه من فصول تقرر أحكامها حقوقاً معتبرة، فإن مما تخطئ الانتباه إليه هو أن الدستور الضمني غير المكتوب أفعل أثراً في أحايين عدة من الدستور المكتوب . وهذه حقيقة يقوم عليها أكثر من دليل في المغرب وفي حياته السياسية منذ الاستقلال .

في ضوء هذه القاعدة، يمكننا أن نلحظ حقيقتين مترابطتين: أولاهما أن سعة السلطات التي تعود إلى الملك لم تمنع المغرب من أن يتمتع منذ استقلاله بأسباب حياة سياسية مستقرة ومنتظمة نسبياً، توفر فيها الحد الأدنى من الحريات (حرية التعبير والتنظيم والتظاهر وتشكيل الجمعيات والأحزاب . . .)، والتعددية الحزبية، والتمثيل (المحلي والنيابي) وانتظمت فيها المواعيد الانتخابية، وحصلت فيها المرأة على الكثير من حقوقها . والعمال والفلاحون والمهنيون على حقوقهم في الانتساب إلى نقابات مستقلة عن السلطة . . الخ . وثانيهما أن الصلة التي ما انقطعت بين الملك والحركة الوطنية أنضجت شروط تفاهمات متبادلة تجاوزت معطياتها ونتائجها نطاق النصوص الدستورية المكتوبة والأطر المؤسسية القائمة .

وفي نطاق مثل هذه التفاهمات (الدستور الضمني) أمكن مثلاً تدشين سياسة ldquo;التناوب التوافقيrdquo; الذي سمح لأحزاب ldquo;الكتلة الديمقراطيةrdquo; أن تشكل حكومة بقيادة زعيم ldquo;الاتحاد الاشتراكيrdquo; عبدالرحمن اليوسفي، وأمكن إعمال قاعدة ldquo;المنهجية الديمقراطيةrdquo; التي سمحت بتأليف حكومة عباس الفاسي الحالية .

ومع أنه ظل من المستحب أن يغطي هذا ldquo;الدستور الضمنيrdquo; الثغر ومَواطن الخلل في الدستور المكتوب، فقد ظل من المأمول أن تجسر هذه الفجوة نهائياً من طريق كتابة دستور عصري يعاد فيه توزيع السلطة على نحو متوازن، وتنتقل به سلطات عدة للملك إلى الحكومة والبرلمان . وقد نُظر إلى العهد الجديد، منذ تولي الملك محمد السادس لمقاليد البلاد في يوليو/ تموز ،1999 بوصفه العهد المناسب لمثل هذه الثورة الدستورية التي ينتهي بها عهد الملكية التنفيذية لتحل محلها ملكية برلمانية . وقد شجعت سياسات الملك محمد السادس على الذهاب في هذا الاعتقاد، وخاصة تلك التي تكرست لتصفية مواريث الاستبداد والقمع وإنصاف من أصابهم أذى منها، أو سعيه الحثيث لتصحيح صورة الملكية في الوعي الجماعي من خلال إسباغ الطابع الاجتماعي عليها كمؤسسة منصفة للفقراء، أو دعوته إلى تبني ldquo;مفهوم جديد للسلطةrdquo; . على أن هذه الانتظارات الدستورية طال أمدها قليلاً قبل أن تضعها المتغيرات الثورية العربية على جدول الأعمال مسألةً للتنفيذ، بل مدخلاً إلى استيعاب ما يجري خارجاً على داخل اجتماعي وسياسي جاهز للاستقبال .

أجيب عن هذه الانتظارات الدستورية جواب رسمي عميق في خطاب الملك محمد السادس في التاسع من مارس/ آذار 2011 . ولعل خطاب 9 مارس ثاني أهم خطاب في تاريخ المؤسسة الملكية في المغرب بعد خطاب جده الملك محمد الخامس الذي أعلن فيه استقلال المغرب قبل ستة وخمسين عاماً . وليس من باب المبالغة والتزيد أن يقال إنه الخطاب الذي يفتح طريقاً نحو إعادة تأسيس الملكية في المغرب على نحو عصري، إذ ليس تفصيلاً أن يضع الملك سلطاته ما عدا إمارة المؤمنين أمام المناقشة الدستورية والتداول السياسي والتعديل بعد أن كانت لعقود منطقة محرّمة على التفكير وخارج أي نقاش عمومي أو غمز ولمز، ولا أن يؤلف لجنة للتعديلات، معظم أعضائها من غير المحسوبين على السلطة، وأن يطلب منها الاجتهاد خارج نطاق توجيهاته وبحرية مهنية تامة .

إن الذي يستفيده المرء من هذه السياقات هو أن من العوامل الرئيسة في التمكين لهذا الإصلاح الدستوري، فضلاً عن النضال الديمقراطي للشعب وقواه، عامل الإرادة الملكية . إن أي محلل موضوعي، عارف بسياقات السياسة في المغرب، لا يسعه إلا الاعتراف بأن إرادة الملك في التغيير اختصرت الطريق على الإرادة العامة في التغيير .