عبد الباري عطوان
لنفترض جدلا ان بعض الفضائيات العربية تبالغ في تضخيم اعداد الشهداء الذين يسقطون برصاص قوات الامن السورية، في حماة وحمص ودير الزور، وقبلها درعا وريف دمشق، ولنفترض ايضا ان بعض شهود العيان ليسوا دائما، او بعضهم، في مكان الحدث الذي يقدمون وصفا عن وقائعه، مثلما يقول المتحدثون والمسؤولون السوريون، ولكن الصورة لا تكذب، وحتى نصف عدد الضحايا (140 شهيدا) مرعب في حد ذاته، وكذلك منظر دبابات الجيش السوري وهي تقتحم المدن السورية لتقمع الانتفاضة الشعبية العارمة التي تجتاح مختلف انحاء البلاد، للمطالبة بالتغيير الديمقراطي المشروع، وتطلق حمم مدافعها، وبشكل عشوائي، على المواطنين، وبهدف القتل، في محاولة يائسة لفرض السيطرة بالقوة.
اصبحت المجازر قدر مدينة حماة واهلها، لانها دخلت التاريخ السوري الحديث كرمز للتحدي، وعنوان للتضحية والتمرد على الظلم والطغيان، فهناك اصرار على تركيع هذه المدينة، وبصورة اكثر شراسة من المدن الاخرى، ولهذا لم يكن مفاجئا ان يكون زوار فجرها هذه المرة، هم ابناء زوار فجرها في المجزرة السابقة قبل نحو ثلاثين عاما، فالمجازر تتناسل، وضحاياها اليوم هم ابناء واحفاد ضحاياها بالامس.
السلطات السورية التي تتمسك بصلابة وعناد بحلولها الامنية لم تتعب من القتل وسفك الدماء، فيما يبدو واضحا من مجازر الامس في اكثر من مدينة، واكثر من بلدة، ولكن المؤكد ان قطاعا عريضا من ابناء الشعب السوري الذي يتعطش للتغيير والعدالة والحد الادنى من الحقوق الانسانية، لم يتعب من التضحيات ايضا، مهما بلغت ضخامتها، مثلما هو واضح من خلال ما يصلنا من تفاصيل المشهد الدموي السوري عبر وكالات الانباء والمحطات التلفزيونية العربية والعالمية.
تخطئ السلطات السورية اذا اعتقدت، انها بمثل هذه الهجمة المرعبة، تستطيع انهاء الانتفاضة، وقبل بدء شهر رمضان الفضيل بالذات، لان خمسة اشهر من تجريب الاسلوب الدموي نفسه، مدعوما بالشبيحة والقناصة، اعطت نتائج عكسية تماما، ففي كل مرة تعتقد انها سيطرت على الوضع، وفرضت قبضتها الحديدية، تزداد الاحتجاجات ضراوة، وتزداد معها مهرجانات الجنائز.
كان اجدى، وربما اكثر نفعا للسلطات، لو انها مدت غصن الزيتون لشعبها في هذا الشهر الفضيل، وقررت ان تجعله مناسبة تعلن فيها هدنة من القتل، تمنح خلالها جنودها وقناصتها إجازة، وللشعب فسحة لالتقاط الانفاس، وتضميد الجراح، ولكنها للاسف لم تفعل والغت فضيلة التسامح كليا من قاموسها ولو بشكل مؤقت، لافساح المجال للعقلاء، اذا بقي منهم احد، لعقلنة هذه الاجهزة الامنية المسعورة والمتغولة، واعطاء فرصة للتأمل والبحث عن حلول اخرى تحقن الدماء، وتجنب البلاد خطر الانزلاق لهاوية الحرب الاهلية الطائفية، التي قد يحرق لهيبها ليس سورية فقط، وانما المنطقة بأسرها.
' ' '
كيف يمكن الحديث عن الحوار ومدافع الدبابات هي التي تتفاوض مع ابناء الشعب بقذائفها؟ وكيف يمكن الحديث عن التعايش مع اطار التعددية الحزبية واطلاق الحريات، والسجون ملأى بأصحاب الرأي الآخر. والمستشفيات تغص بمئات القتلى وآلاف الجرحى؟
سورية تحولت الى مأتم كبير، الى جنازة تمتد نعوشها من اقصى شمالها الى اقصى جنوبها، ومن ساحلها الى آخر نقطة في حدودها الجنوبية، ولا تلوح في الافق اي اشارة الى وقف قريب لمثل هذا المشهد المأساوي.
المعارضة تعارض، تعقد المؤتمرات في هذه المدينة او تلك، يتحدث رموزها بلا انقطاع عبر شاشات التلفزة، يكررون الكلام نفسه، والشعارات نفسها كل يوم.. كل اسبوع، بحيث جفت قرائحهم، وعجزت مواهبهم عن ايجاد تعبيرات جديدة، والنظام في المقابل يواصل نهجه، ويتمسك بسياساته نفسها، بعناد غير مفاجئ، وغير مفهوم او مقبول في الوقت نفسه، والنتيجة في نهاية المطاف دمار شامل لهذا البلد العربي الاصيل الذي كان دائما رأس حربة في الدفاع عن هوية هذه الامة العربية، والاندفاع في نصرة قضاياها الوطنية المشرفة.
لا نعرف اذا كان المسؤولون السوريون، في قمة الاجهزة الامنية خاصة، الذين يصدرون اوامرهم بالمزيد من القتل دون رحمة او شفقة بهذا الشعب العربي الاصيل المثالي في صبره وتحمله، لا نعرف اذا كان هؤلاء يشاهدون جثامين الضحايا مثلنا عبر شاشات التلفزة، وما هو رد فعلهم تجاه شلال الدماء النازف ليل نهار دون انقطاع منذ اندلاع الانتفاضة؟ فهل يتألمون مثلنا، وهل يكتئبون مثلنا، وهل تذرف عيونهم الدموع وهم يرون ابناء شعبهم، واشقاءهم في الدين والعقيدة ينزفون حتى الموت في مطلع هذا الشهر الفضيل وبعضهم ربما كان عائدا من محل بقالة حاملا ربطة خبز او بعض الفواكه المجففة (قمر الدين) او بعض الخضار واللحم، مثلما يفعلون كل عام وفي مثل هذا اليوم.
' ' '
اعترف بان تكرار فصول المشهد الدموي السوري، جعل الكتابة صعبة، علاوة على كونها مؤلمة، وباتت عملية التحليل الموضوعي للأحداث، وتقديم الحلول والمخارج شبه مستحيلة، ان لم تكن مستحيلة، ولهذا لم يبق لنا الا ان نكتب بطريقة عاطفية. فالنظام لا يريد ان يرحل مثلما يطالب قطاع عريض من الشعب، والشعب لا يريد ان يتوقف ويعود الى اذعانه السابق الذي استمر اربعين عاما مثلما يريد النظام، اما الوسطاء فمعدومون، ولا وجود لهم، لا في المجتمع الدولي، ولا في الجوار العربي، الجميع يقف موقف المتفرج، وكأنهم يريدون لهذا الشعب الفناء، ولهذه الدولة الانهيار، بل وربما الذوبان والاختفاء عن الخريطة كعامل فاعل ومؤثر في المنطقة والعالم.
ما نعرفه، بل وشبه متأكدين منه، ان الانتفاضة ستستمر، وان الحلول الامنية لن تعطي ثمارها في كسر كرامة هذا الشعب، واعادته الى حظيرة السكينة والخنوع مجددا، الا اذا حدثت معجزة، ولسنا في زمن المعجزات على اي حال.
مرة اخرى نقول إننا كنا نتمنى ان يكون شهر رمضان المبارك إيذانا بصفحة جديدة من الرحمة والتسامح، وحقن الدماء، فإذا كانت حركة طالبان التي يصفها اعمدة النظام في سورية بالظلامية والتخلف، تدرس وقف كل عملياتها العسكرية ضد القوات الامريكية المحتلة طوال ايام الشهر الفضيل، فقد كان الاجدر بهذا النظام ان يكون سباقا في هذا الاطار، فهو لا يرسل الدبابات لمواجهة عدو محتل، وانما ابناء شعبه الذين لا يريدون اكثر من العيش في أمان في دولة يسودها العدالة وحكم القانون والحد الادنى من الحريات والحقوق الانسانية
- آخر تحديث :
التعليقات