عبد المنعم سعيد

سواء بدأت محاكمة الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك اليوم كما هو مقرر في قاعة المؤتمرات الكبرى بمدينة نصر؛ أو لم تتم لسبب أو لآخر، فإن الرجل يتعرض وسوف يتعرض لمحاكمات عدة حتى ولو لم تتحمل صحته العليلة ضغوط اللحظة، وسوف يظل واقفا أمام محكمة التاريخ. وبشكل من الأشكال فقد كان ذلك اختياره، فهو لم يهرب تاركا الميدان عندما كان ذلك ليس فقط متاحا في الأيام الأولى لانتصار الثورة المصرية، وإنما كان مرغوبا حتى يجري التخلص من هم ثقيل. كان الهرب سوف يريح الجميع لأنه في حد ذاته اعتراف بالإدانة مما سوف يجمع ولا يفرق في وقت احتاج فيه المصريون للوحدة أكثر من أي وقت مضى. ولكنه لم يفعل، ولا حتى استغل أمراضه الكثيرة لكي ينزوي في واحد من مستشفيات العالم التي كان فيها من سيحسن استقباله. ومن المؤكد أن قيادات كثيرة عرضت، وكان المقابل دائما الاعتذار، ومعه جاء الاختيار أن يمثل أمام المحكمة هو وولداه.

مثل هذا الموقف أرجع إلى ذاكرتي لقاءات جرت مع شخصية قريبة جدا من الرجل، وكان الحديث يدلف بالطبيعة إلى موضوع laquo;التوريثraquo; وبقاء الرئيس في السلطة لأكثر من ثلاثين عاما وكانت الإجابة التي تلقيتها هي أن الرئيس جندي، والجندي لا يترك مكانه في الميدان. لم أكن مقتنعا بالحجة خاصة عندما ارتبط البقاء باعتلال الصحة والمرض، وهو الأمر الذي ترك فراغا في السلطة سعت جماعات وأفراد إلى استغلاله لصالحها فسادا أو لأغراض غير نبيلة. ولكن الرد الذي تلقيته أن الرجل بوطنيته سوف يعرف متى ينسحب، وأنه سوف يتعرض دوما لكشف دائم على صحته بحيث يقرر اللحظة التي يخرج فيها من الميدان لصالح مصر قبل كل شيء.

أيا كان السبب فقد كانت النتيجة واحدة وهي أن أبرز أخطاء حسني مبارك كان بقاءه ثلاثين عاما في السلطة، سمح فيها خلال الخمس سنوات الأخيرة لأعوانه أن يزحفوا تدريجيا على السلطة لكي يقتسموها أو يتنافسوا فيها. ولما كانت الصفة السياسية ليست ذائعة بينهم، فإنهم تركوا فراغات كثيرة ينفذ منها آخرون يبحثون عن دور ونصيب. هؤلاء كونوا حلقة حول الرئيس سموها laquo;حلقة النارraquo; التي تحيط به إحاطة السوار بالمعصم، وكانوا حريصين على إبلاغ كل من يقترب بأن الاحتراق قادم بلا جدال.

وهكذا كان مبارك ضحية السلطة بقدر ما كانت السلطة ضحية له، فقد انتهى وجوده فيها إلى أنه بات أسيرا بالرضا أو بالرغبة لجماعة وضعته في الظلام حتى عندما اشتد الحال أيام الثورة إلى درجة لم يعلم فيها ما يجري في البلاد حقا. وعندما نجح الدكتور حسام بدراوي الأمين العام للحزب الوطني الديمقراطي في أن ينفرد به يوم الأربعاء 9 فبراير الماضي قال له باللغة الإنجليزية: سيادة الرئيس إنك تواجه لحظة تشبه تلك التي واجهها تشاوشسكو في رومانيا؛ فما كان من الرئيس إلا أن رد مندهشا، وباللغة الإنجليزية أيضا، هل الأمر بهذه الدرجة من السوء؟

كان ذلك قبل يومين من التنحي، وقبل ستة شهور تقريبا من المحاكمة التي يبدو أنها سوف تكون قانونية وسياسية في نفس الوقت. ومن الناحية القانونية البحتة فإن هناك أمرين في صالح الرجل: أولهما، واستنادا إلى قرار سنه الرئيس أنور السادات فإن حسني مبارك بعد تنحيه عن الرئاسة يعود فورا إلى القوات الجوية برتبة فريق أول، ومن ثم فإنه يخضع بالفعل للقانون العسكري ومن ثم ينبغي نقل القضية كلها من القضاء المدني إلى العسكري الذي سوف يبدأ من جديد وفق تقديرات مختلفة. الأمر الثاني هو أن مبارك وقتما ارتكب ما هو منسوب له من جرائم - أساسا التربح والفساد المالي وإصدار الأمر بقتل المتظاهرين - كان رئيسا للجمهورية وفقا لدستور 1971 الذي يضع قواعد خاصة لمحاكمة رئيس الجمهورية طبقا للمادة 85 التي تنص على أن مجلس الشعب هو الذي يحاكم الرئيس في حالات الخيانة العظمى والجرائم الجنائية عن طريق محكمة خاصة يطلب فيها الاتهام ثلث أعضاء المجلس ويصدر قرار الاتهام بأغلبية الثلثين. وللحق فإن عددا من فقهاء القانون شككوا في انطباق المادة 85 على الرئيس مبارك الآن خاصة بعد تنحيه، وسقوط الدستور كله، ومن ثم فإن مبارك يصبح مواطنا عاديا ينطبق عليه القانون المدني المصري ولكن المشكلة مع هذا المنطق أن الأوضاع القانونية لا تطبق بأثر رجعي إلا في حالات بعينها حددها القانون، ومن ثم لا يجوز محاكمة شخص بقوانين تختلف عن تلك التي ارتكب في ظلها الجرائم المنسوبة إليه.

الجدل القانوني هكذا متوقع في كل الأحوال، والمحاكمة تضع القضاء المصري كله في موضع اختبار كبير سواء كان هذا الاختبار عن طريق المجتمع الدولي وفقهاء القانون فيه، أو عن طريق الإعلام؛ أو أن الاختبار سوف يكون عن طريق الثورة المصرية التي لا تتلاقى أطرافها إلا على هدف واحد وهو إدانة مبارك وعصره وهو ما لن يحدث ما لم يدن في قاعة المحكمة. وبالتأكيد فإن في الاختبار ما هو أكثر من إعلام مصري وعربي، ومظاهرات مليونية لن تتوقف خاصة كلما سارت المحاكمة وخرج منها دفوع وأسرار حذر الحريصون من المصريين على الأمن القومي المصري من طرحها.

ولكن كما يقال فإن laquo;زهرraquo; اللعب قد جرى على الطاولة وبينما يتدحرج سوف ينتظر الجميع أي نتيجة سوف يبوح بها. المؤكد أن المحاكمة سوف تكون أمرا جديدا، فمنذ ولدت مصر الحديثة على يد محمد علي الكبير فقد ظل الرجل في الحكم حتى أصيب بالزهايمر فتولى في حياته ولده إبراهيم الحكم فمات في فراشه بعد فترة قصيرة. وعندما أصبح عباس واليا على مصر كانت نهايته القتل من جماعة الغلمان في قصره في قصة لا يزال بعض من جوانبها غامضا. وإذا كان الوالي سعيد قد مات في فراشه، فإن laquo;الخديويraquo; إسماعيل مات في المنفى وكذلك فعل عباس حلمي الثاني بينما مات الخديوي توفيق والملك فؤاد في فراشيهما. وكان الملك فاروق هو الذي تنازل عن العرش بضغط من ثوار يوليو، لكن تنازله كان لطفله الرضيع، وغادر البلاد بينما قطع الأسطول تطلق 21 طلقة. وفي العصر الجمهوري مات الرئيس جمال عبد الناصر، وتم اغتيال خليفته أنور السادات، واليوم جاءت التجربة الأولى لمحاكمة رئيس الجمهورية الثالث في سابقة لم تعهدها مصر من قبل، ولا أظن أي بلد عربي آخر. هل في الأمر بشارة أنه لا أحد فوق القانون أم أن في الأمر ما ينذر بأن الربيع العربي سوف يقطف رؤوسا حان وقت قطافها. القضاء المصري سوف يقرر المسألة!.