غسان المفلح

ما هو قوام وطبيعة الدولة المدنية الديمقراطية التي ننشدها بعد زوال النظام الاستبدادي?
هناك التباس يطرح دوما عند الحديث عن الدولة المدنية, وهذا الالتباس ناجم عن موقف التيارات الإسلامية من هذه الدولة, والأمر هنا لا يحتاج إلى تنظير لأن كل المستوى السياسي والفكري السوري يعرف ماهي الدولة المدنية, ولهذا لن نضيف جديدا على هذا المستوى, الدولة المدنية هي التي تعتمد على العلاقات المدنية أصلا, لأن المدينة في العصر الصناعي البرجوازي الأنواري, باتت هي الفاعل الأساسي في البنية الاجتماعية وما تقتضيه علاقاتها من قوننة ومؤسسات, وتعايش الناس فيها من مختلف الأديان والطوائف والاثنيات, حيث تعتمد الشارع والحي والمنطقة, وفي كل أحياء المدن يتعايش فيها بشر من مختلف الانتماءات كما قلنا,لهذا نشأ المجتمع المدني, وكان التفاعل في التجربة الانسانية بين الدولة ومجتمع المدينة الحديثة هو الذي يملي علينا ما يمكننا تسميته الدولة المدنية, فيجب على هؤلاء المتعايشين إيجاد صيغة تجمعهم وتعبر عنهم, ولكونهم مختلفون دينيا وطائفيا واثنيا, فيجب أن يتشاركوا جميعا على قدم المساواة في إنتاج هذه الصيغة من التعايش, وهنا لا يمكن لا لدين معين أن يخلق مساواة ولا لطائفة معينة ولا لاثنية واحدة, مساواة البشر تجاه بعضهم بعضاً, والأهم من كل هذا هو إحساس الفرد بالمساواة, وبأنه لا يخضع لتمييز على اساس دينه أو طائفته او اثنيته او انتماءه السياسي أو جنسه. لهذا نقول الدولة المدنية ليست مشخصنة, ولا متدينة ولا مطيفة ولا محزبنة ولا ذكورية, وأنا دوما في الواقع تحضرني أمثلة كثيرة ولكن المثال الهندي يبقى الأغنى من حيث تشابه الوضع هناك مع الوضع السوري, هناك أكثرية دينية وقومية, ولكن توجد كل أديان العالم وطوائفها تقريبا, والتعايش قائم واصبحت الهند من الدول الكبرى, ودستورها لا يميز بين أي مواطن أو آخر ولا على أي صعيد من صعد الفعالية الاجتماعية الكلية, للمسلم الحق كما للبوذي كما للمسيحي وللهندوسي وللسيخي أن يحدد وضعيته السياسية مثلا من خلال صندوق الاقتراع. هذه بداهة من بداهات التجربة البشرية التي انتجت الدولة المدنية, من هذه المقدمة السريعة, ادخل للوضع السوري, ومن دون أن نلف وندور حول نقطة أساس وهي أن طرح الدولة المدنية بما يعني غيابها سببه النظام الحاكم والنظام الحاكم حصرا, وأي اسباب أخرى وإن وجدت فهي ثانوية, فليست الأديان السورية بمشكلة ولا الطوائف بمشكلة ولا الاثنيات بمشكلة في وجودها على هذه الارض, بل المشكلة في السياسة والمصالح, تشخصنت الدولة السورية وأخذت ملامحها من الشخص الأول في الحكم, استطاع حافظ الأسد أن يضفي حتى سماته الشخصية وأخلاقياته وتحالفاته المبطنه والظاهرة, وحتى بعض ما يعتقده على هذه الدولة, فهي بغض النظر عما يمكن أن يقال, لم تعد الدولة السورية, هي اصبحت دولة الأسد السورية, وهذا ما يعبر عنه في شعارquot; سورية الأسدquot; إنه تكثيف لكل هذه الدلالات والمنظومات القيمية والمجتمعية التي آلت إليها الدولة السورية الفتية عندما اغتصب السلطة فيها شخص واحد, ولننظر إلى التسمية التاليةquot; الرئيس الأسد هو المحامي الأول والقاضي الأول والفلاح الأول والعامل الأول والعسكري الأول, لكن لم يقل الطبيب الأول أو المهندس الميكانيكي الأول, ولهذا أيضا دلالاته التي لاتخفى على أحد, سواء على المستوى الجماهيري أو على المستوى المؤسساتي الفاعل من حيث السلطة. حتى أن هناك من يقول أنه اصبح المقدس الأول عند بعض اتباع بعض المعتقدات الدينية! لنر بعض مشايخ الدين السنة أو العلويين كيف يتكلمون عنه. وفيما بعد اصبحت عائلته كلها ضمن أطار المقدس هذا, ولتتحول سورية اقطاعية تخص هذه العائلة وهذه العائلة فقط, ولا تقبل القسمة على أي مواطن سوري أو مع أي مواطن سوري. هذا هو نص السلطة الذي نحاول نحن في شتى مراحل نضالنا السياسي ومقتضياته أن نغض عنه الطرف لعل وعسى أن تركن هذه السلطة إلى قليل من ضمير جمعي على المستوى الوطني السوري, ولكن عبثاً. فهي تتلاعب بكل شيء من أجل استمرار قداستها السلطوية هذه. لهذا كنت ابتسم عندما يتحدث بعضنا عن علمانية أو نصف علمانية تسم هذه السلطة!

وما يجري الآن في سورية من قتل لشعبها يوضح مدى علمانية أو نصف علمانية, من يقتل شعبه وهو يرتدي لباسا رياضياً! ذكرني بأحد ضباط التحقيق في الأمن العسكري في ثمانينات القرن العشرين, كان يستخدم المعتقلين كيس ملاكمة! هذا هو عنوان ما بني في سورية والعنوان الأكثر حقيقة في تعبيره عن تفكير شخوص الحكم في الشعب المحكوم! هذه الشخصنة الأسدية يجب التخلص منها نهائيا.

أنا هنا استجيب لما طرحه الصديق لؤي حسين من أجل مؤتمر حول مستقبل سورية, وطرح مجموعة من الأسئلة عن شكل الدولة المستقبلية بعد زوال الاستبداد, في الشق الأول من الأسئلة أعتقد أن الصديق والمعتقل السابق والناشط الحقوقي أنور البني قد طرح مسودة دستور جديد لسورية, وبوصفه رجل قانون أيضا, يمكن أن يكون اساسا لدستور ما بعد الاستبداد. والاستفادة من كل تجارب الدول التي تشبه في تركيبتها المجتمع السوري كالهند مثلا أو سويسرا أو أميركا, أو مصر الحالية بعد نجاح ثورتها وإقرار الدستور الجديد.
وأتي الآن إلى الشق الأخير والأكثر أهمية في الحقيقة في سياق طرح انعقاد المؤتمر المقبل, والأكثر أهمية من زاوية الوضع السوري الذي خلقته الثورة الشبابية السورية المستمرة في تقديم الشهداء من أجل حريتها وكرامتها ومستقبل بلدها وشعبه. هل ستكون السلطة شريكة في المرحلة الانتقالية?

هذا هو السؤال الأول من هذا الشق من الورقة, أعتقد أن الإجابة يمكن أن تكون عبر إعادة صياغة السؤال نفسهquot; هل تقبل هذه السلطة بالذات أن تكون شريكة في مرحلة انتقالية? أعتقد يصبح السؤال مفهوما ومجابا عليه, وخصوصاً بعد عمليات القتل المنهجي للشعب السوري. في السلطات المشخصنة حتى تتخلص من استبدادها عليك بداية أن تتخلص من الشخوص الفاعلين فيها, أما أجهزة ومؤسسات فهذه ليست مطروحة عند أحد كما أعتقد, حتى على صعيد حزب البعث, من الفاعل فيه, ومن يقبل أن يكون شريكا? أعتقد أن الفاعل الأساس في الحزب هو الفاعل الشخصي نفسه في بقية أجهزة السلطة, وبعدها لا أحد يستطيع منع اي مجموعة من إعادة تشكيل بعثها وفق الدستور الجديد. والمفردة تتخلص في أن يتركوا مواقعهم السلطوية.هناك أيضا فارق علينا ملامسته, وهو الفارق بين مؤسسات الدولة وبين أجهزة السلطة, بين الفاعلين وبين الموظفين لديهم, وسؤال آخر بسيط جدا, هل يقبل بشار الأسد أو أخيه, أن يكونوا أعضاء في جمعية تأسيسية انتقالية, تقود المرحلة الانتقالية, وبوصفهم أعضاء لهم ما لبقية أعضاء هذه الهيئة من حقوق وواجبات? أعتقد ان هذه صعبة قليلا! هذه الهيئة التي تعد لدستور جديد للبلاد, وانتخابات رئاسية وبرلمانية وبلدية, ولا يحق لأعضائها الترشح في الدورة الأولى. وبالطبع تبقى المظاهرات السلمية متاحة ضمانا للجميع.خلال هذه الفترة تقوم هذه الجمعية التأسيسية بعقد مؤتمرات شعبية في الأحياء والمدن, من أجل إعادة رتق التهتك الذي احدثه سلوك هؤلاء في النسيج الوطني, بحيث يعود البريق النسبي للانتماء لسورية لتولد من جديد, لا تمييز فيها ولا أحقاد ولا آل الأسد حيث يمكنهم الذهاب لإيران أو يمكنهم الذهاب لتركيا. وبذلك يصبح من السهل جدا بناء الدولة المدنية السورية الجديدة, بشكل سلمي وآمن.

ويبقى من يحب المساهمة في المرحلة الجديدة من ضباط وعسكر في أماكنهم لهذه الفترة الانتقالية ريثما يبرد الجرح السوري النازف.