عبدالله بن بجاد العتيبي

هدّد السلفيون في مصر منذ الجمعة قبل الماضية بأنهم سيقتحمون ميدان quot;التحريرquot; ويخرجون شبابه منه، وكان خطابهم في تصاعدٍ ودارت جدالاتٌ حوله بين مختلف القوى السياسية في مصر، لم تنته لنتيجةٍ وإن ظفرت ببعض التخفيض للاستعراض السلفي الثوري.

وفي الجمعة الماضية 29 يوليو وفّى السلفيون بوعدهم وتقاطروا كالطوفان على ميدان quot;التحريرquot;، الذي تنادوا للمجيء إليه من كل حدبٍ وصوبٍ وأصدروا الفتاوى التي تؤثم أي سلفيٍ يمتنع عن المجيء لـquot;التحريرquot; دون سببٍ قاهرٍ، وهكذا دخلت أصولية دينية للميدان بكل عنجهيتها وقوّتها فانتحى شباب التحرير بشتى مسمياتهم جانباً واكتفوا بإصدار بيانٍ يشرح ما حدث.

التيّارات الأصولية ضاربة الجذور في طول مصر وعرضها وبشتى جماعاتها وأحزابها وكافة رموزها وشخصياتها، ولذا فحين دخلوا ميدان quot;التحريرquot; كان لهم الصوت الأعلى فيه بكل سهولةٍ ويسرٍ، أعدادهم أكبر وصوتهم أعلى وشعاراتهم تملأ المكان، وأهمّ تلك التيارات الأصولية في الميدان كانت جماعة quot;الإخوان المسلمينquot; وquot;الجماعة الإسلاميةquot; وأخيراً وصل السلفيون.

لقد ذاب تحت هجير الميدان ولهيب الشعارات الدينية الكثير من الشعارات والمفاهيم المدنية التي تغنّى بها شباب quot;التحريرquot; منذ يناير، فأشهر شعارات الميدان كانت quot;الشعب يريد إسقاط النظامquot; فخفت هذا الشعار أمام شعار السلفيين quot;الشعب يريد تطبيق شرع اللهquot;، وكذلك شعار quot;مدنية مدنية، سلمية سلميةquot; سقط سقوطاً ذريعاً أمام شعار quot;إسلامية إسلامية، رغم أنف العلمانيةquot;.

ما جرى في ميدان quot;التحريرquot; يؤكد صوابية الرؤى التي طرحتها نخب محدودة منذ اندلاع الثورة بأنّها ستنجرف نحو الأصولية رغم الشعارات المدنية والديموقراطية البرّاقة التي كانت ملء سمع المشهد وبصره حينذاك، وفعل التيارات الأصولية وحماستها الآيديولوجية في الميدان وضعت كثيراً من المحللين الذين تغنّوا بربيعٍ ديموقراطي عربيٍ يكون نموذجاً للعالم أمام وضعٍ يشهد بعكس تحليلاتهم ونقيض رؤاهم.

الأصولية تقودها الآيديولوجيا، والسياسة تقودها المصالح، وقد ضلّت غالب القوى السياسية في مصر عن أهدافها، وأضاعت بوصلتها، فحين استمر الأصوليون وخاصة السلفيين محافظين على آيديولوجيتهم، تناقضت القوى الأخرى، فشباب quot;التحريرquot; لم يعد يفكّر في بناء الدولة ورسم المستقبل والتطلع لمصر نموذجية، بل لهى بمحاكمات الماضي، ولهث خلف ذحول الانتقام والثأر، فوئدت التنمية وأعيق البناء لصالح الشعارات التي تتلوها الشعارات في ميدان quot;التحريرquot;، والشعارات وإن نفّست احتقاناً فردياً أو جماعياً، لكنّها لا تبني الدول ولا تراعي المصالح الكبرى.

رفض السلفيون بصوتٍ عالٍ ومعهم quot;الإخوانquot; وquot;الجماعة الإسلاميةquot; أي قواعد فوق دستورية تضمن مدنية الدولة، لأنهم يريدون إقامة دولة الشريعة، يسمّيها السلفيون دولةً دينيةً صراحةً، ويسمّيها quot;الإخوانquot; دولةً مدنية ذات مرجعية إسلامية، اختلفت الألفاظ والمعنى واحدٌ، فما يكنّي عنه الإخوان يصرّح به السلفيون دون مواربةٍ.

لا يحسن السلفيون السياسة، فهم لا يمتلكون خبرة quot;الإخوانquot; ولا دهاءهم ولا ألاعيبهم السياسية، وليس لديهم انضباطٌ تنظيميٌ كالجماعة الإسلامية، وليس لديهم وعيٌ كافٍ بخطورة المشهد التاريخي الذي تعيشه مصر، ومن هنا فإن دخولهم للمشهد بكل قوتهم أشبه ما يكون بدخول دبّابةٍ في صراع حارةٍ ذي اشتباكٍ بالأيدي، وهو ما قدّ يضرّ أوّل ما يضرّ شركاءهم في التوجه الأصولي.

نزل السلفيون للميدان نزول الفاتحين، بلحاهم الطويلة وثيابهم المشمّرة وبشعارات الدولة الإسلامية والشريعة، وأعلام الفتوحات الإسلامية وأعلام جديدة لمصر تتوسطها الشهادتان فتسللت 34 حركة سياسيةً وحزبيةٍ لواذاً أمام هذا السيل الأصولي الهادر، واكتفوا ببيانٍ يحتجون فيه على ما جرى في الميدان الذي كان منذ يناير ميدانهم الأثير.

خروج السلفيون بهذا الشكل مفيدٌ جداً لأنه يقول للحالمين بالوصول للديموقراطية دون وعي والحرية دون تأسيس والحقوق دون ترسيخ إن الأوان لم يحن بعد، هكذا يتكلم التاريخ وهكذا يتحدث الواقع وهكذا يكاد ينطق المستقبل، فالديموقراطية ثقافةٌ قبل أن تكون صندوقاً، والحرية وعيٌ وليست فوضى، والحقوق نظامٌ حاكمٌ لرغبات النفوس وجموحها، وهذه الثلاثة تنضج على نار التاريخ الهادئة ولا تنفلت من عقالها في لحظة غضبٍ كبرى فحسب.

لنعد قليلاً إلى الوراء لنتذكّر كيف كان quot;الإخوانquot; هم الأكثر إثارةً من السلفيين وغيرهم ما قبل الثورات، خاصة في المجال السياسي، فهم المشاغبون والمشاكسون والمعارضون، وكان السلفيون حينها يرفضون الفتنة والخروج على الحاكم ونحوها، أما اليوم، فقد انقلبت الآية، وأصبح السلفيون قادة الإثارة والمشاغبة والمشاكسة ولديهم استعدادٌ فطريٌ للتخريب.

سكن quot;الإخوانquot; لأن وعيهم السياسي متقدّم على السلفيين، وحين رأوا الثمار تتساقط تركوا السلاح وأخذوا السلال ليجمعوا الثمار، بينما امتشق السلفيون السيوف في زرقاء الأردن، وأحرقوا الكنائس في مصر، وخرّبوا المسارح ودور السينما في تونس، وحين نزلوا للتحرير اكتسحوا الميدان، ووضعوا منصاتٍ جديدةٍ لهم، وفرضوا شروطهم على المنصات الأخرى فمنعوا منصة 6 أبريل من بث الأغاني، وأخرسوا بقوة شعاراتهم كل من يرفع صوته بشعاراتٍ أخرى، وشعار quot;مسلم ومسيحي إيد وحدةquot; حولوه إلى quot;يا نصراني يا نصراني النبي عليك وصّانيquot; ولا يخفى الفرق الكبير الذي تحمله دلالات كلٍ من الشعارين.

quot;الإخوانquot; يرغبون الاستفادة من ضخامة التيار السلفي لدعم مطالبهم في تديين السياسة في مصر، ويريدون الترويج لأنفسهم بأنهم يمثلون البديل الحضاري عن غوغائية وشراسة التيار السلفي، فيستفيدون من الجهتين، وكم كان لافتاً خروج quot;الإخوانيquot; عصام العريان على الفضائية المصرية وهو يدافع عن تنظيم السلفيين لأنفسهم وتوزيعهم للشرب والأكل مجاناً على أتباعهم من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى يطلب منهم ويستجديهم أن يستفيدوا سياسياً من تجارب سلفيين آخرين في بلدانٍ أخرى، ثمّ يتحسّر أن بعض quot;الإخوانquot; قضوا أسبوعاً كاملاً في مناصحة السلفيين وفشلوا!

من المعلوم أنّ سلفيي مصر ليسوا طيفاً واحداً، بل هم تيارٌ تندرج تحته عدة اتجاهاتٍ مثلهم مثل السلفيين في كل مكانٍ، ففيهم السلفي الألباني والسلفي المقبلي والسلفي الحركي والسلفي الجامي والسلفي الجهادي وهكذا، وهم بشتى أطيافهم قليلو الخبرة والتجربة في السياسة، الآيديولوجيا لديهم مقدمةٌ على المصالح دائماً، ومن هنا فهم من جهةٍ عرضةٌ للتوظيف والاستغلال، ومن جهةٍ أخرى عرضةٌ للانحراف للعنف والتخريب.

ثمة استخدامٌ غير بريء للسلفيين في مصر من قبل بعض الجهات الدينية والمدنية هناك الهدف منه جعلهم شماعةً ومشجباً وذلك بإلقاء أي اشتحانٍ طائفيٍ أو مذهبيٍ أو ديني بشكل عامٍ على السلفيين فحسب لا على التيارات الأصولية كافةً، لأن هذا يسهّل على هذا البعض رمي تبعاتٍ الفوضى والتوتر على خارج مصر بناء على الزعم بأنّ التيار السلفي جاء من خارج مصر ولم ينبت في تربتها، وهو دون شكٍ موقفٌ لا يمتّ للواقع بصلةٍ فالتيار السلفي ضارب الجذور في تاريخ مصر الحديث، كبر حجمه ودوره أم صغر إلا أنّه كان دائماً موجوداً. لقد بدأ ميدان التحرير حليقاً، ولم يلبث أن صار ملتحياً بدخول السلفيين، فأي الوجهين هو الوجه القادم لمصر؟!