محمد الرميحي

ربما لم يُجمع العرب يوم الأربعاء الماضي إلا على مشاهدة تفاصيل محاكمة الرئيس السابق لمصر محمد حسني مبارك. في التفاصيل اختلفت وجهات النظر اختلافا بيّنا بين متعاطف، لأسباب إنسانية، مع الرجل المسن، ومؤيد للمحاكمة لأسباب شتى شخصية أو سياسية.

المأزق المصري هو سوري في الأساس، وأرى أنه قد يكون السبب الحقيقي وراء كل ما جرى.. إنه مختصر في كلمة واحدة laquo;التوريثraquo;. في سوريا سار التوريث عام 2000 بسهولة ويسر عجيب، فقد توفي الأسد الأب وهو ربما على يقين بأن يحول سوريا إلى وراثة. لم يستخدم أحد عقله، وفي عجالة غُيّر الدستور، وأصبح بشار الأسد رئيسا. في مصر، التي قاوم رئيسها منذ البداية فكرة تعيين نائب له، على غير المتبع، تسامح الناس عن تلك الهفوة، حتى ظهرت فكرة التوريث، فبدأت المقاومة الخفية ثم الظاهرة، إلى أن وصل الأمر ما وصل إليه الأربعاء الماضي، رجل مسن في قفص الاتهام راقد على سرير وحوله ابناه، أحدهما كان المرشح الوريث والوحيد.

تفكيك مصطلح الجمهورية لم يخطر على بال كثيرين. فهي (أي الجمهورية) في البدء مناقضة في شكل الحكم للملكية من زاوية مهمة جدا، أي زاوية الزمن الذي يحق للرئيس أن يبقاه في الحكم. فالجمهورية تعني فترة زمنية محددة في الحكم تؤول بعدها السلطة إلى شخص أو أشخاص آخرين. الملكية هي أن يبقى الملك ملكا، ما زال قادرا على الحكم، ثم يورث من يليه في التسلسل. حتى الملكية، في الأغلب الأعم، يكون لها ولي للعهد معروف مسبق.

أقدم الجمهوريات المعروفة هي جمهورية الولايات المتحدة، وقد حرص المؤسسون على فترة زمنية للرئيس لتولي الحكم، لا من أجل شيء، لكن من أجل تمييز الحكم الجمهوري عن الحكم الملكي، كما يقول لنا التاريخ الأميركي. وهكذا استمر الأمر عُرفا لا قانونا حتى أصبح فرانكلين روزفلت قبيل منتصف القرن الماضي ذا أربع دورات (توفي في الفترة الرابعة)، فأصبح لزاما أن يتحول العرف (فترتين للحكم) الذي أقره الآباء المؤسسون إلى قانون. ومن هنا جاء التعديل الحادي والعشرون للدستور الأميركي، والذي تمت الموافقة عليه في 21 مارس (آذار) 1947 وأصبح قانونا في فبراير (شباط) عام 1951، وأول من طُبق عليه هو دوايت أيزنهور، لا يجوز قانونا أكثر من فترتين في الحكم.

في عالمنا العربي البائس، أطيح - على الموضة - منذ النصف الثاني من القرن العشرين ببعض الملكيات، لكي يحل مكانا لها وبديلا عنها حكم جديد، سماه عالم الاجتماع المصري سعد الدين إبراهيم (الجملوكيات) وفاقت تلك الجملوكيات في بشاعتها في التطبيق السياسي أي ملكيات سابقة أو لاحقة. إذا أخذنا مثالا آخر للمقارنة فإن من أقدم الديمقراطيات الغربية ما يطبق في بريطانيا، وحتى هناك، في الوقت الذي لا يلزم فيه القانون بتغيير رئيس الوزراء ما دام يحظى بالأغلبية البرلمانية، فإن الحزب الحاكم، تحوطا لعدم مركزية الحكم، قرر أكثر من مرة، في كل من حكم المحافظين، في حال السيدة مارغريت ثاتشر، وفي حكم العمال، في حال السيد توني بلير، أن يزيحهما من عرش الحكم وهما يتمتعان بأغلبية برلمانية، يبدو أن كل أشكال الحكم إن دام في واحد فسد!

المقصد ألا يكون رئيس الجمهورية في الحكم خارج المحاسبة اللاحقة أو سوبر إنسان. في الحالة العربية المؤسفة أصبحت الجمهورية تجيء بأسوأ أشكال الديكتاتورية، فالرئيس يُجدد له مرة وأخرى وثالثة ورابعة، ما شاء رب العزة أن يبقيه على الحياة. والرئيس العربي إما أن يموت أو يقتل أو يُورث الحكم لأهل بيته! في اليمن ومصر وسوريا وليبيا والجزائر والسودان وعدد آخر من الأماكن، تتكرر الظاهرة طبق الأصل وإن اختلفت التفاصيل. ينتهي حكم الرئيس بقتله أو موته. المرات الاستثنائية القليلة هي ما شهدناه في بداية القرن الحادي والعشرين، محاكمة الرئيس العراقي الأسبق المُطاح به من الخارج، وتلك لها أسبابها الخاصة، والثاني يوم الأربعاء الماضي، عندما شاهد العالم الرئيس المصري السابق وابنيه، يحمل كل منهما في يده مصحفا، كما فعل صدام. بقية الجمهوريات إما تعاني الآن من شبه حرب أهلية، أو تعد نفسها لذلك. ظاهرة الجمهوريات العربية - الصالحة لكل زمن - غير مكررة، إلا في بعض دول أفريقيا السوداء، حتى هناك في الغالب ديمومة الرئيس ولكن بلا توريث.

ما حققته الجملوكيات العربية هو إحساس مزيف بالاستقرار إلى حد الاستهتار بكل الظواهر العالمية الجارية، وبحقوق الناس الطبيعية من الحرية والعدالة. فكرة أن يعود الرئيس بعد انقضاء حكمه مواطنا بسيطا يمشي بين الناس، تعني أشياء كثيرة وعميقة يمكن أن تتغير؛ تعني أول ما تعنيه أنه سيكون محاسبا كمواطن على ما اقترف من كسر لقانون أو انتهاك للحريات.

جاك شيراك رئيس الجمهورية السابق في فرنسا قدم للمحاكمة بسبب بضع شقق تابعة للبلدية تصرف فيها - كما قيل - خارج القانون. فكرة أن الشخص سوف يحاسب في حياته تجعله مدققا لما يعمل، ومحاسبا بصرامة مساعديه وأعوانه إن تصرفوا خارج القانون. تلك هي فكرة الجمهورية، تداول سلمي للسلطة بين أفراد وجماعات تعود بعدها إلى صفوف المواطنة. بهذا فإن التفكير في أن هذا القانون أو تلك الخدمة أو ذلك الحجر سوف ينطبق عليه كما ينطبق على بقية المواطنين في المستقبل، يجعل من القائد، في أي موقع كان، يحسب ألف مرة تصرفه ونتائج قراراته. لقد افتقد ذلك في الجمهوريات العربية إلى حد الاستخفاف مصاحبا بقراءة عمياء لحقائق الزمن.

ما نراه إذن حولنا، ليس في تفاصيله وإنما في كلياته، هو نتيجة لافتراض الديمومة التي تتسع لارتكاب الخطايا.

لا أشارك البعض في القول بأن ما حدث في تونس أو في مصر أو حتى في ليبيا أو سوريا أو اليمن هو حراك من الناس أو الشباب. فإن ما غير الموضوع برمته في كل من تونس ومصر - وإن كان حراك الشباب هو البداية - هو الكتلة الحرجة التي انضمت للمتضررين، التي تضررت بالاستهتار السياسي الذي وسع قطاعات المجتمع المتضررة، إلا أن هذا الاستهتار، وإن طال، لم يقع على أرض موات، فقد بُلت العروق، بعد أن قربت تجف.

الأهم من ذلك ليس تفاصيل محاكمة مبارك على ما ظهر من اتهامات أراها تفتقد إلى الأدلة المادية المرجحة، ولكني أتفهم الدوافع السياسية. ونتيجة لكل ما يجري ليس الحكم على مبارك أو على صدام حسين أو على غيره من الرؤساء هو الهدف.

النتيجة المستحقة والمستحبة والهدف الحقيقي، هو القدرة على بناء منظومة أخرى من القيم السياسية لا أراها محققة في أماكن أخرى حتى الآن. فها هي تلك المعارضة التي كانت في العراق تتسلم السلطة، وتكاد - أقول تكاد - تكرر نمط الحكم السابق، إن لم يكن في الشكل ففي المضمون. إذن هناك مكون ثقافي لدى العربي يحتاج إلى نقاش، كونه مهيأ للحكم المطلق يركن إليه ويفلسفه، فإن لم يكن لك كبير، عليك أن تشتريه، كما يقول المثل المصري.

الجمهورية تنفي الديمومة، فإن استطاع الشعب المصري أن يُقرر في دستوره القادم، ما قرره التعديل الدستوري الأميركي الحادي والعشرون، وهو ضبط مدة الرئاسة وتطبيقها بالفعل، فسوف نُبشر جميعا بأن الرئيس المصري القادم من البشر لا من الفراعنة، وعلى زمن قد يطول، يمكن تفكيك التسلط العربي والبيروقراطية القمعية.

لكن السؤال الكبير هو: هل يتحقق ذلك؟.. ستظل الإجابة عن السؤال معلقة.

آخر الكلام:

الدراما العربية في رمضان الحالي في الغالب هزيلة. قلقي من أشكال الدراما القادمة، والمصرية هي السائدة، فإن هي أخذت بفكرة ذم عصر مبارك بالمطلق وتمجيد العصر الجديد بالمطلق، تكون ثقافة التزلف لا تزال هي سيدة الموقف!