وائل مرزا

في مقابل صورة التنازلات المعبّرة المذكورة في المقال السابق، والتي تُعدُّ دليلاً واضحاً على إنجازات الثورة، ينبغي النظر إلى حساب الإنجازات أيضاً من خلال الفعل الثوري للجماهير، وما خلقهُ على الأرض من حقائق ووقائع جديدة، اجتماعياً وثقافياً وسياسياً.
تحدّثنا سريعاً عن سقوط حاجز الخوف لدى الشعب السوري، وهذا مكسبٌ هائلٌ يُعتبر مفرق طريق نفسيا متميزا في عملية قيام الدول ونهوض المجتمعات. لأنه الأداة الرئيسية لظهور إرادةٍ جمعيةٍ على التغيير الجذري لا يمكن أن يقف في وجهها بعد حاجز الخوف حاجز، مهما طال الطريق.
وحين تُقابلُ الثورة بالرصاص والدبابات على امتداد أرض سوريا، يأتي السقوط المذكور لحاجز الخوف فيُصبح وقوداً لدرجةٍ عاليةٍ من الوحدة الوطنية والالتحام الجماهيري قُلنا ونُكررُ بأنها يجب أن تكون مجال دراسة في كل حقول علم الاجتماع المعاصر. إذ أفلحت الثورة مثلاً في ضخّ الروح الحقيقية في شعاراتٍ كانت تاريخياً زائفةً وفارغةً من المعنى والمضمون على مدى عقود. مثل شعار (بالروح بالدمّ نفديكِ يا..)، والذي انقلب إلى نوعٍ من العهد المُعمّد بالدم بين شرائح الشعب في مختلف المناطق، وأصبحت أمثلته العملية تستعصي على الحصر.
تبلغ المفارقة قمّتها حين نجد بالمقابل حجم التدّني الأخلاقي للنظام وأجهزة أمنه حين نعرف كيف أصبحت ممارسة اعتقال العشوائي للشباب وسيلةً للتكسّب من خلال طلب فدية من أهلهم لإطلاق سراحهم تبدأ من مئة ألف ليرة ووصلت في إحدى الحالات إلى اثني عشر مليون ليرة. كما تظهر حين رأى كيف كان أهل دير الزور يقسمون جماعياً على الحفاظ على تراب الوطن والمنشآت العامة والمباني الحكومية قبل ساعات فقط من اقتحام مدينتهم بالدبابات!.
إن الظواهر المذكورة تمثل مكسباً هائلاً لا يمكن إلا أن تُعتبر من إنجازات الثورة وعلامات تقدّمها الواضح. فتصاعد عملية الوحدة الوطنية وتجذيرها والتأكيد على الصالح العام هي أرضيةٌ رئيسيةٌ يستحيل في غيابها أن يظهر عقدٌ اجتماعي وسياسي وثقافي وطني شامل لسوريا الجديدة. لهذا، تُعتبر هذه المكاسب إنجازات نوعية تُضاف لإنجازات الثورة، ويُشكل القفز عليها بدرجةٍ من الاختزال إجحافاً بحق عطاء الشعب السوري، فضلاً عن كونه مرةً أخرى علامة جهلٍ بالدلالات الحضارية الكبرى لمثل هذه الممارسات.
وعند هذه النقطة، لا يمكن أن ننكر إنجازاً آخر يتمثل في اتساع دوائر المشاركة الشعبية في فعاليات الثورة السورية بجميع أنواعها. فالكلُّ يساهم، وبشكلٍ متزايد، في تصعيد الفعل الثوري بطريقته الخاصة. والكلُّ يساهم فيما أسميناه الملحمة السورية الكبرى.
لا يمكن تجاوز هذه النقطة دون الحديث عن ظاهرةٍ جديدة تُثبت نفسها بكل وضوح، وتتمثل في الانضمام السريع والواسع والمتزايد لشرائح جديدة إلى صفوف الثورة. يكفي هنا الحديث عن شرائح الشباب من الفنانين والمثقفين الذين حسموا خيارهم منذ أسابيع، وصاروا بشكلٍ متزايد عنصراً له دلالاته الرمزية الهائلة، بحكم ثقافتنا السائدة ودور (الرموز فيها) وما يمكن أن تجلبه حركتهم من دعمٍ واسع لشرائح واسعة من المجتمع، خاصةً حين تُظهر المواقف والممارسات والمشاريع المبدعة التي يقوم بها هؤلاء في الآونة الأخيرة ما تفرزه الثورة من عبقريةٍ تتجلى في كل مجال. وفوق الرمزية المذكورة، فإن انضمام هؤلاء له دلالاته الحساسة جداً في عملية فكّ ارتباط النُخب (المدينية) المثقفة من أَسرِ النظام وتهديداته، وفيما يمكن أن يمارسه هؤلاء من استقطاب شرائح أخرى من كبار الفنانين والمثقفين إلى صفّ الثورة بعد أن اتضح للجميع أن خيار الحياد، خاصة لقادة الرأي وصناعه، لم يعد خياراً مناسباً ولا مقبولاً، لا على الصعيد المبدئي ولا على الصعيد الشخصي.
تتقدم الثورة إذاً وتكسب من خلال حركة هؤلاء إنجازاتٍ نوعيةً جديدة تختلف في طبيعتها ووزنها وتأثيرها عن الإنجازات السابقة. ومن خلال التأكيد على الطابع السلمي للفعل الثوري عبر مشاريع متنوعة وعديدة يرسّخ هؤلاء في الوعي الجمعي للشعب والثوار مبدءاً رئيساً من مبادئ الثورة يتمثل في إصرارها المستمر على السلمية. ثمة مشاريع مثل (مثقفون لأجل سوريا) و(الحراك السلمي السوري) و(أسبوع التضامن مع المعتقلين) و(نفوسٌ كرام) وغيرها تقوم بممارسات إبداعية تُظهر من ناحية وقوفها الصريح والواضح مع الثورة، وتُسببّ من ناحيةٍ أخرى حرجاً إعلامياً وسياسياً وإرباكاً هائلاً للنظام من قمة الهرم إلى شرائح رجال الأمن، الذين يتواجدون بالمئات في مواقع هذه النشاطات دون أن يجدوا سبيلاً للتعامل معها بممارساتهم المعروفة من الضرب والاعتقال بسبب طابعها السلمي الخالص، مثل الوقفات التضامنية الكبرى في الساحات العامة دون هتافات ومع التميز فقط بارتداء اللون الأبيض، وإنشاء صفحات لتوضيح وشرح العشرات من طرق وأساليب الحراك السلمي، وإنتاج أعمال فنية تحمل في طياتها قوة رمزية ومعنوية هائلة. إلى غير ذلك من عشرات النشاطات.
ويمكن أن نضيف للشريحة المذكورة طبعاً شرائح المحامين التي بدأت تتحرك بفعالية في عددٍ من المدن السورية، تمهيداً لما نرى أنه سيكون نتيجة طبيعية تتمثل في انضمامها الكامل للثورة والشعب، على الأقل بحكم مقتضيات مهنتها وطبيعته النبيلة التي لا يمكن أن تتجاهل الثورة ومطالبها أكثر من ذلك.
باختصار، يكتب الشعب السوري اليوم بدايةً حقيقية أخرى لتاريخه العظيم، يقدّم من خلالها نموذجاً إنسانياً يُحتذى سيتحدث عنه التاريخ طويلاً. وفي ملحمة الشعب السوري الراقية، يقدم السوريون بحياتهم وسلوكهم وممارساتهم ومواقفهم نمطاً من الفعل الإنساني السامي يطمح لتحقيقه شعبٌ ملّ من عقود التخلّف والرجعية باسم الحداثة نفسها، وبات يتوق للحرية والكرامة، وليبدأ فصلاً جديداً من فصول قصة وجوده الحضاري اللائق به على هذه الأرض.
هل ثمة مجالٌ بعد هذا العرض للسؤال عما أنجزته الثورة السورية، وعن الأسباب التي تُحتّم استمرارها؟ وإذا ما أصرّ البعض على تجاوز كل هذه الحقائق، وحاول محاصرتنا في مقتضيات القصص الإخبارية ذات النهايات المشوّقة السريعة، فإن من الواضح أن الحوار معهم لم يعد يستحّق إضاعة وقتٍ ثمين لا تملك الثورة الزهد فيه بأية حالٍ من الأحوال.