سيد أحمد الخضر

لعله من الطبيعي الإقرار بأن تركيا رغم أهميتها الاقتصادية والسياسية في المنطقة ليست من ضمن القوى الفاعلة على المستوى الدولي التي تملك أدوات كثيرة تمكنها من فرض رؤاها على الأنظمة والحكومات.
أنقرة إذن ليست واشنطن ولا باريس اللتين تسيطران على الأجواء والممرات البحرية وتهيمنان على مجلس الأمن وأهم المؤسسات المالية على مستوى العالم.
رغم ذلك، أوحت حكومة رجب طيب أردوغان للشارع العربي بقدرتها على التأثير في مسار الأحداث التي تشهدها المنطقة, فمنذ بداية الثورات أدمن أردوغان التصريحات، وأسرف في توجيه قادة المنطقة نحو ضرورة تقبل إرادة التغيير وتغليب مصلحة الشعوب.
عقب الثورة التونسية، رحبت أنقرة بهروب بن علي وأعلنت استعداداها لدعم التونسيين في تحقيق تطلعهم نحو الحرية والديمقراطية.
ولم يمض كثير من الوقت حتى وجد أردوغان فرصة أخرى لمخاطبة شعوب الشرق الأوسط, فبعد اندلاع الثورة المصرية نصح رئيس الحكومة التركية أكثر من مرة نظام مبارك بالتحلي بالحكمة وقيادة التغيير.
وعلى عكس الحكومات التي تدرك جيدا أن موقف أنقرة ليس عاملا مهما في استقرارها من عدمه، كانت شعوب المنطقة تهتم كثيرا بحنجرة أردوغان الوعظية, وترى فيها سندا لتطلعاتها نحو الانعتاق من قيود الاستبداد.
في الحالتين المصرية والتونسية لم يواجه الموقف التركي تحديات قد تضر بمصداقية حزب العدالة والتنمية في المنطقة العربية، حيث بلغت الثورة غايتها في كلتا الدولتين بسرعة فائقة، وحازت أنقرة شرف دعمها دون بذل أي جهد يذكر.
عندما وصل قطار التغيير إلى ليبيا وجنح الشارع هناك لحمل السلاح في اللحظات الأولى لاندلاع الثورة وجدت تركيا نفسها أمام موقف حرج، فدولة متمدنة لا يمكنها مناصرة القذافي حتى إن كانت تربطها به صلات اقتصادية وثيقة، كما أن تأييد التغيير بالقوة يتنافى مع الديمقراطية الإسلامية التي يبشر بها أردوغان ورهطه.
لقد اختارت أنقرة موقفا شجاعا في الأسابيع الأولى من الاضطرابات الليبية، حيث رفضت بشكل قاطع تدخل حلف الناتو, وعارضت تسليح الثوار، وحتى الاعتراف بالمجلس الانتقالي الذي يقوده مصطفى عبدالجليل، وهو أحد أهم رجالات القذافي قبل يوم واحد من تفجر النزاع.
لكن اندفاع الغرب والعرب أيضا نحو استخدام القوة لخلع الزعيم الليبي من جهة، واستياء الشارع العربي من موقف أنقرة من جهة أخرى، دفعا حكومة العدالة والتنمية لدعم ثوار ليبيا سياسيا وماليا على الأقل، وهو ما يؤشر إلى حقيقتين: الأولى، أن تركيا لا يمكنها أن تشذ عن النهج الذي تتبناه أميركا وأوروبا في المنطقة، والثانية هي أن أردوغان يهمه الإبقاء على صورته لدى الجماهير العربية كمناصر للقضايا الإسلامية, وخليفة منتظر قادر على فك الحصار عن غزة, وربما تحرير القدس الشريف.
أما في الحالة السورية فلم تتريث تركيا في الإعلان عن مؤازرة الشعب، ولعلها سبقت الغرب في تحذير الأسد من قمع المتظاهرين، واعتبرت التيارات السياسية حينها أن موقف أنقرة رافد مهم للثورة ومؤشر جيد على قرب أفول البعث.
كان تعويل المعارضة على دور تركيا يعود لكونها المناصر الوحيد لسوريا في الغرب، ما يعني أن الأسد سيفقد الشرعية في نظر العالم الحر عندما تتخلى عنه في المحافل الدولية، هذا إلى
جانب أنها (تركيا) تملك جيشا قويا يتذكّر المتابعون أن تهديداته ترعب النظام في سوريا وتحمله على تغيير مواقفه في أقل من يوم.
لكن العثمانيون الجدد ظلوا أكثر حرصا على الحديث عن المثل والقيم، من اتخاذ أي موقف جريء لثني الأسد عن الإمعان في الفتك بالمدنيين.
لقد بدا رجب طيب أردوغان مجرد واعظ لا يجد من يصغي للحِكم التي يرددها، وفي الحالات التي كان يهدد فيها النظام السوري كان يبعث -على ما يبدو- رسائل في السر تؤكد أنه غير جاد فيما يقوله في العلن.