جميل الذيابي وخالص جلبي : كوميديا القذافي وهتلر وكاليجولا

كوميديا laquo;القذافيraquo; السوداء!
جميل الذيابي
الحياة
لم أقابل معمر القذافي إلا عن بُعد على هامش بعض القمم العربية من دون الحديث إليه أو الاستماع إلى نزقه وجنونه. وفي قمة الجزائر في شهر آذار (مارس) 2005، تمحّصت وجه القذافي عن قرب، إذ كنت وعدد قليل من الصحافيين نقف على بوابة فندق في العاصمة الجزائر يتوافد عليه الزعماء العرب (المخلوعون والفارون والباقون) لتناول وجبة عشاء على شرف الرؤساء، دعا إليها الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة. كانت العلاقات السعودية ndash; الليبية حينها شبه مقطوعة على أثر محاولة العقيد القذافي اغتيال الملك عبدالله بن عبدالعزيز عندما كان ولياً للعهد، ولم يحضر العاهل السعودي القمة وأوفد نيابة عنه وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل. حضر العقيد إلى حفلة العشاء مرتدياً بزة بيضاء ونظارة سوداء في ليل مضاء بالثريات والرقصات القبائلية والامازيغية، وصل العقيد إلى الفندق في سيارة فاخرة لا يخترقها الرصاص مع أمير قطر، كان يجمعهما آنذاك عدم هضم سياسة الرياض، لوجود توتر في العلاقات بين الرياض من جهة وطرابلس والدوحة من جهة أخرى. ظلا في السيارة يتحادثان ويضحكان لأكثر من 30 دقيقة متجاهلين الحراس الذين ظلوا يشيرون إليهما بضرورة نزولهما، وتحرك السيارة حتى يمكن استقبال ضيوف آخرين، وحينما نزلا حاول الصحافيون الاقتراب من العقيد للحديث معه عن بيان القمة والقضايا العربية المطروحة، إلا أنه نظر إلينا بازدراء، وتجاوز الجميع نحو قاعة العشاء يلف وشاحه أو مشلحه على جسمه. لا أنكر أن laquo;هلوسةraquo; القذافي وجنونه يثيرانني ويدعوانني إلى الاستماع إلى تصريحاته لغرابة أقواله لا بسبب رجاحة عقله ورصانة سياسته. يعتبر الصحافيون القذافي مادة فكاهية ووصلة ربط laquo;كوميديةraquo; تحرك الأجواء داخل قاعة رسمية، لا تتحدث إلا كلمات تقليدية شبه معروفة سلفاً. تطغى على القمم المواقف الرسمية الثابتة أمام الشاشات الفضية والمتغيرة خارجها، إلا أن القذافي بجنونه دائماً ما يفاجئ الحضور بشيء مختلف، إما بإشعال السيغار أو التهكم على الحالة العربية أو على الأوضاع بطريقة طريفة جداً حتى غدا نجم العدسات التلفزيونية والوسائل الإعلامية أينما حضر. أحياناً يعيد العقيد laquo;الهاربraquo; تصرفاته إلى أنه يدخن مثلاً laquo;لأنه مستاء مما يحدث في الواقع العربيraquo;، وهو يتجاهل أنه وأشباهه سبب نكسة الأمة، ويقفز على حقيقة ممارساته الإجرامية ضد شباب ليبيا.
في قمة تونس في 2004، اقترح حل الصراع العربي - الإسرائيلي عن طريق إقامة دولة laquo;اسراطينraquo;. وفي قمة الجزائر laquo;هلوسraquo; القذافي كعادته لأكثر من ساعتين، معتبراً أن الاتحاد الأفريقي العربي laquo;هو شاطئ النجاة للعربraquo;، داعياً إلى انضمام laquo;منطقة الشامraquo; في المشرق العربي في اشارة إلى سورية ولبنان وفلسطين والعراق، إلى الاتحاد. أما دول الخليج العربية، فدعاها إلى الانضمام إلى laquo;فضاءات إقليمية أخرىraquo; لتنقذ نفسها، وهو لا يعلم انه غير قادر على إنقاذ نفسه من قبضة الثوار كما يحدث. ثم وصف الفلسطينيين والإسرائيليين بالغباء، وقال إن غباءهما سبب عدم حل المشكلة حتى الآن.
في قمة شرم الشيخ في عام 2003، تنبّه الملك عبدالله بن عبدالعزيز (ولي العهد آنذاك) لما حاول ان يسقطه القذافي على بلاده ودول الخليج بشأن احتلال صدام للكويت، وباشره بالرد السريع بقوله: laquo;المملكة العربية السعودية ليست عميلة للاستعمار مثلك ومثل غيرك.. مين جابك للحكم .. من جابك للحكم ..لا تتعرض لأشياء مالك فيها حظ ولا نصيب .. الكذب إمامك.. والقبر قدامكraquo;. قال العاهل السعودي كلاماً قوياً مختلفاً لم يعتد على سماعه القذافي ما جعله laquo;يجن جنونهraquo;، وما إن عاد إلى طرابلس حتى بدأ مهمة الثأر عبر استقطاب معارضين في لندن وصرف الملايين من أجل تدبير محاولة اغتيال الملك السعودي. بعد ذلك الكلام عقد مسؤول سعودي رفيع جلسة مختصرة مع صحافيين في جدة كنت من بينهم، ليؤكد أن المواقف السعودية المستقبلية لن تراعي مثل هؤلاء الذين يتحدثون خارج التاريخ، وان عهداً جديداً قد بدأ لمواجهة هؤلاء المتنطعين، وكان يقصد بذلك القذافي ونظامه. وفي منتصف رمضان 2003 اتصلت بالزميل جورج سمعان (رئيس تحرير laquo;الحياةraquo; آنذاك) في لندن، لأبلغه بخبر حصري أرغب في نشره، مضمونه ان القذافي دبر خطة لاغتيال الأمير عبدالله وتم القبض على مجموعة كانوا يدبرون تلك المحاولة. لم ننشر الخبر، وبعد ذلك بأشهر قليلة نشرت laquo;نيويورك تايمزraquo; خبر محاولة القذافي اغتيال الملك عبدالله بتفاصيل قريبة مما كان لدينا من معلومات.
وبعد أن حاول التهجم على الملك عبدالله في قمة الدوحة عام 2008، جلست وزميل ليبي تم نفيه إلى لندن نتحدث عما قال القذافي، فقال: laquo;هذا مثل اللي له سبعة أرواح.. لا يعرف إلا القتل والتدمير والتشريد.. هذا مجنونraquo;. اليوم ينتصر الليبيون الشرفاء ويتخاذل الجبناء ويطرد الثوار القذافي وأبناءه من باب العزيزية وقلعة الصمود. لا يزال القذافي متخفياً شريداً خائفاً على حياته، وسيطوي التاريخ صفحته السوداء عاجلاً لا آجلاً، لأنه ديكتاتوري سفاح كان يحتقر شعبه، ويتعامل مع شباب ليبيا بالتهديد والسجون والتعذيب وكل أشكال القسوة.
تنبأ القذافي خلال القمة العربية في دمشق بأن laquo;المشانقraquo; ستطارد الزعماء العرب واحداً تلو الآخر بعد إعدام صدام، وهكذا فعل التاريخ به سريعاً، وهذا دليل آخر على أنه لا يتعلم من الدروس، ولم يفكر في شعبه يوماً بقدر ما أراد تحويله إلى laquo;خزانة مفتوحةraquo; للأفارقة لإسباغ المدائح وحسن الوصائف عليه.
الأكيد أن القذافي قال للشعب الليبي، laquo;ثوروا ثورواraquo;،. ولم يتردد الشعب للثورة عليه والاقتصاص منه، وهكذا تكون نهاية الأنظمة الشمولية البوليسية، وهو ما يستدعي من الآخرين الاعتبار بالتاريخ وإعادة الاعتبار للشعب من دون سوق المبررات التي ستخفض laquo;الواهمينraquo; خفضاً وتحطم كراسيهم وترمي بهم إلى مزبلة التاريخ بصفحات سوداء.
سؤال يسألني عنه كثر، السعودية لم تعلن الاعتراف بالمجلس الانتقالي حتى اليوم، على رغم العلاقة laquo;الباردة جداًraquo; بين الرياض وطرابلس يا ترى... ما السبب؟!
القذافي وهتلر وكاليجولا
خالص جلبي
الاتحاد الإماراتية
بقي هتلر حتى اللحظات الأخيرة لا يستوعب ما يحدث، وحين مات الرئيس الأميركي روزفلت فجأة أقنعه جوبلز وزير الدعاية أن الحرب ستنقلب لصالحه كما حصل مع الملك فريدريك وموت كاترينا قيصرة روسيا يومها. وفي النهاية استسلم لأحلامه الخاصة وأطلق في معركة الأردين ما تبقى من احتياطه 370 ألف جندي في الجبهة الغربية، وإذ لم يبق مناص حين حاصرت القوات الروسية دار المستشارية في برلين استيقظ من أحلامه وقرر الانتحار، بعد أن أمر (شبير Speer) وزير التخطيط بإبادة ألمانيا فالشعب الألماني لا يستحق الحياة بعد القائد!
وهو مالم يفعله (شبير) وقد حكم عشرين عاماً وخرج وتابع حياته واستمعت إلى مقابلة معه أثناء وجودي هناك.
بعدها عقد هتلر زواجه على عشيقته إيفا براون، ونزلا سوية إلى القبو بعد أن ودع أصدقاءه وجنرالاته. في القبو انتحر مع إيفا براون بالسم والرصاص، بعد أن جرب السم على كلبه المدلل الألزاسي فمات لفوره. وأوصى بأن يحرق جثمانه فلا يبق أثر وهو ما أطلق حملة من الشائعات أنه هرب إلى جبل بافاريا ليقود حرب العصابات، أو أنه يعيش في الأرجنتين.
أما جوبلز، فقد قضى على بناته الست ثم انتحر مع زوجته، وأحرقت الجثتان، ولكن ليس بالشكل الكامل فعثر عليهما. هذا ما كان من نهاية هتلر وكذلك مضى القذافي على نفس الطريق فرسم مصيره وعائلته بالدم.
حين أتأمل الأحداث الجسام أتذكر حكمة أرسطو تبدو نهاية الدنيا (كوميديا) لمن يفكر و(تراجيديا) لمن يشعر!
قد ينتهي طاغية في الدنيا بما يستحقه من لعنة الله والملائكة والناس أجمعين كما حصل مع القذافي وميلوسوفيتش وصدام، أو على العكس قد يودع الحياة مرتاحاً على كرسي السلطة.
وإذا كان تشاوسيسكو قد دلف إلى قبره باللعنة والرصاص فإن كثيرين ماتوا بالهتاف بحياتهم. إنها جدلية محيرة كما نرى يحتاج فيها الإنسان إلى بوصلة جديدة ليفهم هذا اللغز؟
إن المصلحين الاجتماعيين والفلاسفة المفكرين قد تنتهي حياتهم، ولكن موتهم يختلف عن موت الطغاة؛ فهم يخضعون لقانون دفن البذرة في الأرض كي تخرج منها شجرة باسقة طلعها هضيم.
وأما موت الطاغية فهو نهاية نظام ورهط أتقنوا الإجرام واستكان لهم الناس بالفزع الأكبر. وما يحكم هي الخاتمة والنتيجة والمصير سواء في حياة الطاغية أم بعده؛ فلم تبق شيوعية اليوم بعد ستالين، وتسود إسبانيا الديمقراطية بعد حقبة فرانكو.
ويمضي التاريخ وتنضج الشعوب ويتقلص ظل الجبارين، ويموت أهل الفكر فيتركون أملاً في الحياة، ويسحق الجبارون سحقاً. ويكتشف الناس في ذهول أن الموت حق لأنه يكنس الظالمين ويطور الحياة وبذلك يصبح الموت أحد مفردات الحياة.
يقول (ديورانت) إن الإمبراطور (كاليجولا) قال لجدته أنطونيا عندما حاولت نصحه: (اذكري أن في مقدوري أن أفعل أي شيء بأي إنسان)، وأرغمها في النهاية على قتل نفسها، وذكر لضيوفه في إحدى الولائم أن في وسعه قتلهم أجمعين وهم متكئون في مقاعدهم. وكان وهو يحتضن عشيقته يقول لها ضاحكاً (سيطيح هذا الرأس الجميل بكلمة تخرج من فمي).
ونجا عمه (كلوديوس) من القتل عندما تظاهر بأنه مجنون. وأخيراً طلب من الناس عبادته لأنه أفضل الآلهة ونصب تماثيله في مداخل المدن والساحات العامة.
وفي النهاية قتل على يد ضابط من الحرس (البريتوري) وعندما ترددت الإشاعات في البلد أنه قتل لم يصدق الناس ويقول (ديورانت) إن: (كاليجولا عرف في ذلك اليوم أنه ليس إلهاً). هل وصل القذافي إلى هذه القناعة يا ترى؟ أشك في ذلك!