عصام الجردي


بعد أيام تستضيف باريس لقاء لمجموعة الاتصال الدولية في شأن ليبيا، لبحث مستقبل هذا البلد بعد رحيل معمر القذافي . إعادة الإعمار ستكون من بين الموضوعات الأساس في جدول أعمال ذلك اللقاء .

طاغية عربي آخر يرفض ترك السلطة إلاّ بجواز هروب لا تأشيرة دخول، تاركاً وراءه آلاف الضحايا، وعدداً غير محدد من الجرحى، واقتصاداً لحق بمؤسساته وبناه التحتية دمار واسع، وتوقف دولاب إنتاجه عن الدوران .

الصورة منقحة عن عراق صدام حسين: لم يجد الشعب الليبي الشديد الحساسية تجاه التدخل الأجنبي، غضاضة في الاستعانة بمزيج من تحالف الدول التي تحمل تاريخاً من استعمار الدول العربية والعالم، لتخليصه من الديكتاتور .

وكان للشعب الليبي ما أراد، ليبدأ الآن مرحلة جديدة تتمثل بإعادة إعمار البلاد والاقتصاد، فضلاً عن بناء الدولة ودستورها ومؤسساتها السياسية والأمنية وخلافها . ذلك بأن إعادة الإعمار وبناء الاقتصاد وتغيير نمط توزيع الثروة الوطنية وفي مقدمها الثروة النفطية، تحتاج إلى أطر دستورية ومؤسسات أولاً .

الخطط والبرامج والسياسات في المقام الثاني تأتي . المشكلة العويصة التي تواجهها ليبيا ما بعد القذافي مختلفة كلياً عما تواجهه تونس ومصر . في تونس ومصر هناك مؤسسات قائمة بذاتها .

والبلدان في مرحلة تعديلات دستورية على جوهر عمل تلك المؤسسات لحسن تمثيل المواطن ولاستئناف الاقتصاد عمله على النحو الذي تريده الهيئات المنتخبة والسلطات المعنية . لهذا مازال شباب الثورة في مصر يرددون أن مبارك والمقربين منه قد رحلوا وبقي نظامه عاملاً . في ليبيا الوضع مختلف . الكتاب الأخضر ذهب مع القذافي، ومعه ذهبت المؤسسات الدستورية المقتبسة من ldquo;الكتاب الأخضرrdquo; الذي كان يعدّه ldquo;عظيماًrdquo; . لم يكن هناك أصلاً مؤسسات لتبقى . لا جمهورية ولا رئيس ولا مجلس نواب، ولا مجلس وزراء . بالكاد هناك ما يشبه الوزارات ممثلة بrdquo;أمانات اللجان الشعبيةrdquo; .

هذا في الجوهر، أما في الشكل، فيستحيل مع نظام على هذه الشاكلة من غياب المؤسسات وتفرد ldquo;قائده المطلق الصلاحياتrdquo;، التفريق بين ما هو خاص وبين ما هو عام . ويبدو من خلال ما تم تداوله عن صندوق الثروة السيادية في ليبيا المتمثل بالمؤسسة الليبية للاستثمار، أن لا أحد يعلم بدقة موجودات هذه الصناديق .

فما إن أعلن في بداية الثورة من مصادر غربية أن موجودات الصندوق بنحو 70 مليار دولار أمريكي، حتى بدأت الأخبار بشأن أنها تراوح بين 160 ملياراً و170 . وكان كافياً إعلان مسؤول في وزارة الخزانة الأمريكية أن حصة الولايات المتحدة من الأموال الليبية في الخارج تبلغ 32 مليار دولار أمريكي، للتأكد بأن حجم الصندوق السيادي الليبي يفوق بكثير الأرقام التي تتردد بلا ثبت مرجع .

ليبيا أعادت منذ الثمانينات توزيع موجوداتها الخارجية بعيداً عن الولايات المتحدة بعد تجربة العقوبات . ومن قائل ان ودائع ليبية موجودة في جزر كايمن وبهاماس وليشتنشتاين وغيرها من الملاذات الآمنة لتهريب الأموال .

أما التوظيفات المباشرة في مؤسسات وشركات أوروبية مصرفية ونفطية وعقارية وصناعية، فإمكان رصدها متوافر من خلال الأطر القانونية التي تعمل من خلالها . لا نتحدث عن ثروة القذافي وممتلكات العائلة . وكيفية استعادتها إلى ليبيا .

مجموعة الاتصال الدولية التي ستجتمع في باريس تعلم تأكيداً كل هذه الوقائع وأكثر . فالمال الليبي في مصارفها، والاستثمارات في ديارها والذهب في أقبيتها . دعمها الجوي للثوار الليبيين له تكلفة ستدفع من ليبيا، وليس من خزائن دول المجموعة الفارغة . المجلس الوطني الانتقالي الذي يستغيث بالولايات المتحدة ودول أوروبا لتحرير جزء من الأموال، مطالب بالحزم حيال قضية جلاء حجم الودائع الليبية والاستثمارات ومتعلقات القذافي والعائلة والمقربين . ولا عذر للمجلس، وعلى رأسه مسؤولون تعاونوا عقوداً مع القذافي قبل قيام الثورة، في ألا يفعل ذلك خطوة أولى قبل البحث في موضوع الإعمار، والعلاقة النفطية مع دول مجموعة الاتصال في المستقبل . والمعلومات موجودة على الفور بلا عناء . وإلاّ علام العقوبات والحظر وقرارات مجلس الأمن؟

ليبيا ليست أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية . ولا دول مجموعة الاتصال من الولايات المتحدة، إلى الدول الأوروبية، هي الولايات المتحدة بعد الحرب . هذه الدول الآن في حاجة إلى مشروع مارشال لسداد ديونها، يتولاه ldquo;المارشال الصينيrdquo;، وrdquo;الكاميكازrdquo; الياباني وآخرون من بينهم عرب دولاً وأفراداً . ليبيا بلد غني، وفيها أجود نفط العالم . وتحتاج إلى ثورة جديدة في مشروعات التنمية والاستثمارات، بما في ذلك استثمارات النفط والغاز . اختراق ldquo;السيادة الإنسانيةrdquo; وحقوق الإنسان الليبي التي مارسها القذافي، لا يعني ارتهان إعمار ليبيا واقتصادها لشروط دول الناتو، ولحراس الودائع القذافية، التي ما كان على تلك الدول قبولها بطرق ملتوية مع علمها أنها تخضع لقوانين تبييض الأموال .

بقي أن الإمارات وقطر ومصر وجامعة الدول العربية مدعوة إلى لقاء باريس . مؤسسات الاستثمار العربي والمستثمرون العرب يجب ان يسهموا بدورهم في إعمار ليبيا ومشروعاتها . وقد عزل القذافي بلده عن أنشطة العمل الاقتصادي العربي المشترك عقوداً . لا نحاول حشر المجلس الوطني الانتقالي للثورة الليبية، فهو في حاجة إلى كل الدعم، بمقدار ما نوصي حريصاً، اجتناب المنزلقات في لحظة التحديات الكبيرة .