سيد أحمد الخضر

أبدت أنقرة اهتماما لافتا بالحصار الإسرائيلي لغزة في السنوات الأخيرة اعتقد كثيرون -أنا بينهم- أن حكومة حزب العدالة والتنمية تعمل على توظيف القضية الفلسطينية في السجال الانتخابي المحلي لتضمن أصوات المتدينين. وبدا جليا أيضا للمتابعين أن الدخول بقوة في ملف الشرق الأوسط المعقّد يمثل التفاتة من تركيا إلى عمقها الاستراتيجي للتعويض عما فرطت فيه طيلة عقود بعد أن خابت مساعيها في laquo;التغربraquo; رغم تقدمها في تحقيق العديد من المكاسب الاقتصادية والسياسية الكفيلة بدخولها في نادي العالم الحر.
لقد تعزّز هذا الطرح باقتصار قادة تركيا على إدانة إسرائيل في العديد من المناسبات الدولية دون اتخاذ أي خطوة عملية تمسّ تعاون الجانبين الوثيق على الصعيدين الاقتصادي والعسكري.
خلقت التصريحات الرنانة من أردوغان بطلاً في الشارع العربي لأنه القائد الوحيد الذي يحمل هموم فلسطين خصوصا غزة التي رفض معظم زعماء الأمة العمل على تخفيف الحصار عنها. ربما خوفا من أن تلصق بهم تهمة دعم الإرهاب، فلا تزال حماس منظمة إرهابية في نظر واشنطن، رغم أنها وصلت للحكم عبر انتخابات حرة راقبتها المنظمات الغربية.
فتح اعتداء إسرائيل على أسطول الحرية فصلا جديدا من العلاقة بين أنقرة وتل أبيب, حيث كان معظم ضحايا القافلة من الأتراك، ما ولد حينها غضبا شعبيا عارما وتعالت الحناجر تطالب أردوغان بتأديب إسرائيل.
لكن الرد التركي المدوي في الإعلام فقد حيويته على الأرض، فلم يتعد سحب السفير من تل أبيب ووعظها بأهمية الالتزام بالأخلاق والإقلاع عن إراقة الدماء.
بعث وهَن تركيا أمام إسرائيل حينها رسالة واضحة تقول إن حكومة العدالة والتنمية لا يمكن أن تقدم أي دعم يذكر للفلسطينيين ما دامت اكتفت بالعويل على مواطنيها الذين أزهقت أرواحهم في عرض البحر.
لم يشأ الشارع العربي المكلوم تلقف تلك الرسالة، وحافظ على الصورة التي رسمها لأردوغان في مخيلته. كذلك استطاب أردوغان جني المكاسب السياسية بالمجان فأيد الثورات العربية، وأطل على الأنظمة الدكتاتورية بحزمة من النصائح فقط. ولعل الوضع في سوريا خير مثال على ما نقول.
لكن حكومة أنقرة اتخذت مؤخرا إجراءات لم يتوقعها حتى أكثر المتفائلين، حيث طردت سفير إسرائيل وعلقت التعاون العسكري معها إلى جانب الإعلان عن إعداد ملف لمقاضاتها دوليا. يبدو -ظاهريا على الأقل- أن تركيا كانت تنتظر صدور تقرير أممي يتحدث عن laquo;تعسفraquo; إسرائيل في استخدام القوة لاقتحام أسطول الحرية.
لقد فاجأ أردوغان خصومه وأنصاره على حد السواء عندما تحلل من العقدة الإسرائيلية التي كانت تضع الكثير من علامات الاستفهام أمام مشروعه الطموح في المشرق.
طبعا لن يكون تصعيد تركيا ضد إسرائيل ذا جدوى، على الأقل في الظرف الراهن, لكنه سيكرس قدرة قادة حزب العدالة والتنمية على فك الارتباط بين ضرورة رضا إسرائيل والاحتفاظ بعلاقات جيدة مع الغرب.
إن تركيا في تنصلها من وشائج العلاقة مع إسرائيل دون أن تخسر أيا من حلفائها في الغرب تبرهن على إمكانية تجسيد نظرية العمق الاستراتيجي لوزير خارجيتها أحمد داود أوغلو، فهي مصممة على التأثر والتأثير في الشرق دون صدود عن تطلعها نحو أوروبا. هذا التطلع الذي يعود له الفضل في تميزها عن دول الجوار على كل المستويات.
لكن الأهم من هذا كله هو أن تبني تركيا لنهج سياسي يقيم علاقات متينة مع القوى العظمى دون احتضان إسرائيل، يؤسس لعلاقة جديدة بين الغرب والإسلاميين الذين يتوقع معظم المراقبين وصولهم للسلطة عبر صناديق الاقتراع في الدول العربية التي عصفت بأنظمتها الثورات.
عندما يؤمن الغرب بأن مصالحه في الشرق الأوسط أكثر أهمية من إسرائيل، ويقتنع الإسلاميون بأن الحلول السياسية هي وحدها المتاحة في السعي لاستعادة الحقوق العربية يكون أردوغان رفع الحرج عن الجانبين ليتمكنا من الالتقاء في العلن.