فيكين شيتيريان

في فترة بعد الظهر يوم الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 تلقيت اتصالاً هاتفيّاً من صديق لي في نيويورك، يخبرني فيه بصوت مرتعب عن اصطدام طائرة بأحد برجي مركز التجارة العالميّ. هل كان الاصطدام حادثاً؟ لم يترك الاصطدام الثاني مجالاً للشك: كان هذا اعتداء من نوع جديد. في الأيام التالية، عمّت نيويورك حالة من الهلع: ما الذي سيحصل بعد ذلك؟ قنابل إشعاعية قذرة أم اعتداء نوويّ؟ حاولت أن أقنع صديقي بألا يخشى موجة ثانية من الاعتداءات. وكنت مقتنعاً بأن بن لادن وأعوانه كانوا laquo;محظوظينraquo; بالنجاح الذي حققوه وبأنّهم ربما لم يعتزموا وضع خطة ثانية.

لم أكن أعلم في ذلك الوقت كم أنّ بن لادن مخطط إستراتيجي سيء. فلم يهيئ laquo;الجهاديّraquo; السعوديّ أتباعه لإخلاء المدن الأفغانيّة إذ كان مقتنعاً بأنّ الأميركيين لن يقدموا أبداً على إرسال جنودهم ليحاربوا في أفغانستان، وأخبر مناصريه بأن الأميركيين جبناء. ونتيجة لذلك، لم تخلِ حركة طالبان ومناصريها المدن ولم تتوزع قواتها في المناطق الجبليّة استعداداً لحرب عصابات طويلة الأمد، كما كان ليفعل كل من يتوقّع رداً أميركياً فورياً. استمرّت حركة طالبان في دعم الخطوط الأماميّة في شمال شرقي أفغانستان، وأبقت على وحداتها في المدن المعادية ككندز ومزار الشريف وكابول, وقد قُتل المئات من الأعضاء التابعين لها في العمليات المشتركة التي شنّها الأميركيون وحلف الشمال الأفغاني. وفي عام 2003، أثبت بن لادن مرّة جديدة أنّه مخطط إستراتيجيّ سيء حين كان الأميركيّون يحضرون علناً لغزو العراق، فأمر أتباعه، خلافاً لرأي ملازميه، بأن يطلقوا شرارة التمرّد في السعوديّة، الأمر الذي أدى إلى هلاكهم على يد القوات الأمنيّة. وفي العام ذاته، ذاع صيت laquo;أبو مصعب الزرقاويraquo; اختار أن يحارب في العراق- وقد حصد من الشهرة ما مكّنه من منافسة بن لادن نفسه.

وأكثر ما يلفت النظر في اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) هو شجاعة بن لادن الذي تجرّأ على مهاجمة قوة عالمية، يعتبرها الكثيرون مصدراً للظلم. وكان لموقفه هذا ثمن باهظ: حيث كان الشرق الأوسط قبل 11 أيلول مكاناً يعمّه العنف، لكنّه وصل الآن إلى مستوى غير مسبوق من العنف. وتمّت التضحية بجيل كامل من الشباب العربيّ في سبيل تحقيق مشروع أمّة إسلاميّة غير محددة المعالم. ولقي آلاف المقاتلين حتفهم في تفجيرات انتحاريّة- وصل عددهم في العراق فحسب إلى الخمسة آلاف.

لكن الخطأ الاستراتيجي الأكثر فداحة الذي اقترفه بن لادن كان تصوّره أنّ بإمكانه إعادة إحياء الحضارة العربية الإسلاميّة من خلال مواجهات عسكريّة مع عدوّ غير محدد. واستناداً إلى الأفكار التي طورها سيد قطب حول طليعة المناضلين الإسلاميين، عمل على إزالة فكرة مشاركة الشعب العربيّ من مفهومه للسياسة. والآن بعد الربيع العربيّ، يمكننا القول: كم كان مخطئاً!

أما أحد أكبر الخاسرين جراء اعتداءات 11 أيلول فهو حركة المناهضين للعولمة: ففي أواخر التسعينات، ازداد هؤلاء قوّة حتى أنّهم تمكّنوا من أن يضربوا حصاراً حول قادة العالم، بواسطة القيم التي كانوا يحاربون من أجلها وفي شكل حسي على حد سواء. وأصبحت حقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعيّة، وحماية البيئة قيماً أسمى من المنافسة القوية على السلطة والاستيلاء على الموارد. وهي قيم ظهرت في الفترة التي تلت الحرب الباردة، حيث برهن سقوط الاتحاد السوفياتي أنه لا يمكن بسيطرة الجيش وبسط الشرطة إشباع حاجات مجتمع في طريقه إلى التطوّر وأنّ تأجيل تنفيذ الإصلاحات قد يؤدي إلى انهيار الدولة. وبعد انهيار حائط برلين، أخذ عصر جديد بالنشوء أوقفته فجأة أحداث 11 أيلول التي قلبت معادلته وجعلت من القيم العسكريّة أمراً رائجاً من جديد. واختُطف عقد كامل من المسائل العالميّة المهمّة في حروب من دون حدود، بلغت تكلفتها بلايين الدولارات، في أفغانستان والعراق ومناطق مواجهة أخرى غير محددة المعالم في laquo;الحرب على الإرهابraquo;.

واستفاد المقربون من إدارة الرئيس السابق جورج بوش في شكل مباشر. فتمّت خصخصة الحرب على نطاق واسع- حيث باتت الآن مطاعم ماك دونالدز تقدّم الطعام في المخيمات العسكريّة الأميركيّة المتمركزة في بلدان أجنبية، وشركات أمن خاصّة تؤمن سلامة السفارات وتملأ جيوب أصحاب العلاقات الوثيقة في واشنطن. والأسوأ من ذلك هو أنّه تحت غطاء الحرب على الإرهاب، تفكك الوضع الاجتماعي الأميركي، وخُفضت الضرائب المفروضة على الأغنياء إلى مستويات تاريخيّة. إلا أنّ أعجوبة laquo;السوق الحرّةraquo; لم تحصل، وفي أعقاب الأزمة الماليّة التي اندلعت في عام 2008 أسهمت أموال مسددي الضرائب مجدداً في إنقاذ الشركات الأميركية والمصارف الأوروبيّة على حد سواء، وهو عبء ضرائبيّ أثقل كاهل الطبقات الوسطى في السنوات العشر الأخيرة.

وانضمّت الأنظمة غير الشعبيّة وغير الشرعيّة في الشرق الأوسط وأفريقيا إلى لعبة laquo;الحرب العالميّة على الإرهابraquo;. فدعمت الحرب من أجل نيل حظوة واشنطن؛ وقام البعض بذلك بغية تحصيل الأموال من واشنطن، بينما كان هدف أنظمة أخرى تأمين الحجة الأخيرة لعلة وجودها. ألم يقل القذافي في الأمس، كما يقول الأسد اليوم، إنّ التظاهرات السلميّة ضدّ النظام يقودها بالفعل إسلاميّون خطيرون؟

بالنظر إلى هذا العقد الضائع، تساءلتُ أحياناً: ما هي الأهداف الكامنة وراء غزو الولايات المتحدة للعراق واحتلاله؟ أو حتى لمواجهتها مع المقاتلين الإسلاميين؟ ومن سيكون الرابح في هذه الحروب؟ ولا يخطر ببالي سوى جواب واحد: الصين.