يوسف الكويليت

في بداية الثورات العربية التي انفجرت في تونس، لم يكن أحد يضع ليبيا على قائمة الانتظار في وقوع ثورة مشابهة، والسبب يرجع إلى أن النظام محصن بالعملاء والقوة الأمنية والعسكرية، وأن مجموعات قبلية بعيدة عن بعضها موزعة على مساحة كبيرة، لا توجد روابط تدفعها للثورة، وأن نسب الفقر والأمية، والمحيط الجغرافي غير المؤثر جميعها ثوابت على عدم وجود ما يزعزع النظام، وباستثناء الحواضر المدنية، التي ظلت النخبة غير الفاعلة، فإن لا شيء يجعل القذافي في خطر..

هذا الاستنتاج لم يكن دقيقاً، إذ أن مبررات الثورات تأتي من فساد النظام، واتساع البطالة وقمع الحريات، وسيادة المحسوبيات على الكفاءة، واحتكار السلطة من قبل فاسدين، وتدني مستوى المعيشة.. وفي وضع ليبيا لو وجدت حكومة عاقلة لاشتراطات بقائها، وبأن عوائد النفط قادرة أن تخلق من المواطن شخصية تملك مستلزمات حياة متطورة، لكن الأموال ذهبت باتجاه نسيج المؤامرات، وتضخيم شخصية الزعيم والصرف على الإعلام المطبل، وترك التنمية الداخلية كآخر هموم النظام..

فالبيعة الافريقية بتنصيب القذافي ملكاً لملوكها، جاء برشوة زعامات هي في تكوينها وشخصيتها لا تقل عبثية في تفكيرها عن القذافي، وواقع الفقر والوعود بالصرف على تنميتها كان الطريق للإمضاء على هذه الملكية العظمى!!

ليبيا الراهنة تثير الكثير من التساؤلات، فالقذافي شخصية دمرت الإنسان ونهبت المال، وما بعده تتعدد التصورات التي تفترض تطاحناً بين القبائل أو بروز وجه للتيار الإسلامي، وثالث يعتقد أن وجود السلاح مبرر للانشقاقات، لكن المظاهر العامة لا تجسد هذه المخاوف..

فحلف الأطلسي، وإن لم يحارب النظام بجيوش نظامية، فهو استطاع أن يوحد الفصائل الاجتماعية، ويحول سيارات المواطنين إلى قوافل عسكرية وناقلة جنود، وأن مدربين من الحلف لم تكن مهمتهم عسكرية فقط، بل لقراءة الحراك والتوجه العام، ورصد التطورات التي رافقت الزحف الجماهيري، بمعنى أن التحليلات للاتجاه العام، كانت تراقب وتتوقع، ولم نجد من بين الأفكار من قال بمخاطر حرب أهلية، أو بروز للقاعدة، وحتى القادة ممن ذهبوا لأفغانستان بقوا يحملون اتجاهاً توافقياً مع جميع التنويع الوطني..

ومثل بقية الأنظمة الدكتاتورية، خلق القذافي عداءً عاماً من داخل شعبه، ولازمه هاجس جنوني أنه ندرة من البشر جاءت هدية للعالم، حتى أن مهزلة الكتاب الأخضر الذي وضعه دستوراً عالمياً بين الشيوعية والرأسمالية، مجرد هرطقات، بينما في داخل الرجل تسكنه الكوابيس، وظاهرة تسليمه المفاعل النووي للغرب بعد سقوط صدام حسين يؤكد هاجس الرعب الذي سكنه، وتسميته شعبه بالجرذان يؤكد أنه جيد نادر فوق الشعب، ومع ذلك انتهت أسطورة أشهر حاكم مجنون، لكن ما بعده، هو المهمة الصعبة، وتجاوزها لابد أن يأتي بإرادة شعبية ناضجة..