أحمد عبد المعطي حجازي

ما الذي يستطيع القارئ البسيط أن يفعله حين يقرأ في صحيفة من أكبر الصحف المصريةrlm;,rlm; مقالات ينكر فيها أصحابها المبادئ الأساسية في الدستور أو فوق الدستورية التي اقترح علينا الدكتور علي السلمي نائب رئيس مجلس الوزراء أن نتفق حولها ونجعلها أساسا للدستور الجديد, حلا للخلاف القائم الآن بين القوي السياسية المختلفة حول الدستور والانتخابات, ولأيهما تكون الأسبقية؟

القوي الديمقراطية والمدنية عامة تعتقد, ولها الحق, أن الدستور هو القانون الأساسي الذي ينظم كل شيء في الدولة, وهو الأصل الذي تقوم عليه كل سلطة ويصدر عنه كل قانون, فلابد أن يسبق كل خطوة نخطوها في الطريق الي تقنين السلطة وبناء مؤسساتها الشرعية.
لكن جماعات الإسلام السياسي علي اختلافها تعتقد الآن أنها أكثر تنظيما وأوفر مالا وقدرة علي التأثير من الأحزاب المدنية والقوي الديمقراطية, التي لم يتسع لها الوقت بعد لإعادة تنظيم نفسها واستجماع قواها, وهذه هي الفرصة التي تعتقد جماعات الإسلام السياسي أنها سانحة للوصول الي السلطة, عن طريق الإصرار علي أن نبدأ بإجراء الانتخابات التي يمكن أن تحصل فيها هذه الجماعات علي عدد من المقاعد في مجلس الشعب يجعل لها يدا في تشكيل اللجنة التي ستضع الدستور الجديد, ويمكنها بالتالي من تديين الدستور وتديين الدولة.
ولاشك في أن جماعات الإسلام السياسي تستند في موقفها هذا الي نتيجة الاستفتاء علي المواد التي عدلت في الدستور القديم وأعطت الأسبقية لإجراء الانتخابات التي ستأتي بالمجلس. الذي جعلته نتيجة الاستفتاء مسئولا عن تشكيل لجنة الدستور أو مشاركا فيها. وهذا ما تتمسك به جماعات الإسلام السياسي وتراه حقا لايمكن التنازل عنه. ونحن إذن أمام خلاف لابد من حله أو أمام حقين متعارضين نحتاج للتوفيق بينهما: حق يتمثل في شعار الدستور أولا, وحق يتمثل في الالتزام بنتيجة الاستفتاء.
غير أن اعترافنا بوجود هذين الحقين المتعارضين لا يعني أنهما متساويان, ولا يمنعنا من التمييز بينهما, فنحن نعلم أولا أننا لم نلتزم قاعدة واحدة مفهومة في التعامل مع الدستور القديم وفي تعديل مواده, فضلا عن أن اللجنة التي شكلها المجلس العسكري لتعديل مواد الدستور لم تكن ممثلة لكل القوي السياسية ولم تضم من أطراف الخلاف القائم إلا اثنين يمثلان جماعات الإسلام السياسي منهما رئيس اللجنة.
ثم ان الحقوق لا تتساوي, وهذا ما سوف أشرحه فيما يلي بشيء من التفصيل, الحق العام غير الحق الخاص, والمبادئ الأساسية غير الاجراءات والتنظيمات التي تترتب عليها. ونحن نوازن بين وضع الدستور وإجراء الانتخابات, فنجد أن البداية المنطقية هي وضع الدستور لأنه الأساس الذي يقوم عليه كل شيء بما في ذلك إجراء الانتخابات, ثم ان الدستور حق مبدئي, أما الانتخابات بالطريقة التي رسمتها لجنة تعديل الدستور فإجراء يمكن أن نعيد النظر في القانون الذي ينظمه أو في التوقيت المحدد له, أو نعمل علي تحقيقه بالصورة التي ينتفي بها التعارض بين الحق في وضع الدستور والحق في إجراء الانتخابات, وهذا ما نراه في الوثيقة الدستورية التي اقترح الدكتور علي السلمي أن تجمع بين ما جاء في الوثائق التي صدرت عن المؤسسات والمنظمات المختلفة من المبادئ التي لايمكن أن تكون محل خلاف لأنها حق لكل البشر وقواعد مجربة ومعمول بها في كل النظم الديمقراطية.
هذه المبادئ التي طرحت علينا في الأسابيع الأخيرة تحت اسم المبادئ الدستورية الأساسية, أو المبادئ الحاكمة, أو المبادئ فوق الدستورية, يمكن أن تكون في حالة قبولها حلا موفقا للخلاف القائم بين الداعين للبدء بوضع الدستور والداعين للبدء بإجراء الانتخابات, لأن التوافق علي المبادئ الأساسية يضمن للدستور ألا ينفرد بوضعه تيار بالذات, وبهذا نستطيع أن نبدأ بإجراء الانتخابات دون خوف من استغلال نتائجها في وضع دستور يتناقض مع الديمقراطية وحقوق الإنسان.
غير أن هذا الحل لم يرض جماعات الإسلام السياسي التي تريد أن تتحكم في وضع الدستور, ولهذا شنت حملة شعواء علي الوثيقة المقترحة ابتداء من الاسم الذي أطلق عليها وهو المبادئ فوق الدستورية فقد زعمت هذه الجماعات أن المبادئ المقترحة يراد بها أن تكون فوق الدستور! وهذا زعم باطل شاع وتحول الي نوع من الإرهاب دفع الدكتور السلمي نفسه للتبرؤ من هذا الاسم الذي يدل علي معني يختلف كل الاختلاف عن المعني الساذج الذي شاع, وهذا ما أريد أن أوضحه اجابة عن السؤال الذي ختمت به الجزء الأول المنشور من هذا المقال يوم الأربعاء الماضي, ووعدت بالإجابة عنه اليوم: لماذا نسمي المبادئ الأساسية في الدستور مبادئ فوق دستورية؟
وسأبدأ الإجابة بأن أقول إننا لم نخترع هذه العبارة التي لم يفهمها الذين ناقشوها ومنهم أساتذة مختصون ووزراء سابقون, وإنما هي عبارة مترجمة عن أصل فرنسي كما أظن هوlasupra-constitutionnalite ويدل كما يري الأستاذ الفرنسي فيديل علي المعايير ذات الطابع الأخلاقي في الدستور أو علي المبادئ التي تعتبر مكونا أساسيا فيه.
وباستطاعتنا نحن أن نقول إن المبادئ فوق الدستورية هي المبادئ العابرة للدساتير, أو التي يجب أن تكون موجودة فيها جميعا, لأنها خبرات إنسانية مشتركة, وحقائق لاينكرها عقل بشري, وحقوق يعترف بها الجميع وتتضمنها كل الدساتير كالحق في الحياة والأمن والحرية, وقد شغلت العالم هذه المسألة بعد الأحداث والتطورات والتحولات المتسارعة التي جعلت الكوكب الأرضي قرية واحدة لا يستطيع ساكن من سكانها أن يخرج علي قوانينها الكونية, وان ظل كل منهم متمسكا بتراثه وخصوصيته, ومن هنا ينشأ التعارض في بعض الأحيان بين السيادة الوطنية كما تفهمها وتمارسها بعض الدول, وبين القوانين والقيم الإنسانية كما يفهمها المجتمع الدولي, ويصبح من الضروري أن نميز في الدستور بين المبادئ الأساسية التي لابد أن نتوافق حولها, ومنها المبدأ القائل بأن الأمة مصدر كل السلطات, والمبدأ القائل بأن المواطنة وحدها أساس الانتماء للجماعة وهي الرابطة التي تترتب عليها الحقوق والواجبات, والمبدأ القائل بالفصل بين التشريع والتنفيذ والقضاء, والمبدأ القائل بالفصل بين الدين من حيث هو اعتقاد حر وعلاقة بين الانسان وربه, وبين الدولة من حيث هي مؤسسة دنيوية وكيان قومي يجمع كل المواطنين علي اختلاف عقائدهم الدينية ـ أقول من الضروري أن نميز بين هذه المبادئ الأساسية وبين مواد الدستور الأخري التي تدور حول الفروع والتفصيلات أو تضع للحقوق والحريات العامة إطارا وتعين لها مسارا تصبح به ممارسات فعلية, فهي إذن ـ هذه المواد الأخيرة. تكمل المبادئ الأساسية وان اختلفت عنها, لأنها تتأثر بالظروف وتستجيب للتحولات, فمن الجائز أن تتعدد فيها الاجتهادات وتختلف وجهات النظر, لأن كل الطرق مشروعة مادامت الغاية واحدة, والغاية هي الدولة المدنية الديمقراطية التي نريد أن نصل اليها لنثبت أن ما قمنا به في يناير ثورة حقيقية, فإن فشلنا, لاقدر الله في بناء هذه الدولة فالنظام لم يتغير, والثورة التي بدأت ثورة تحولت في النهاية الي انقلاب جديد استفاد منه النظام القديم!