إياد الدليمي

تسير بخطوات واثقة، شعوب أمنت بقدرها وحريتها، اختارت أن تكون بعد أن عاشت مغيبة، يحكمها الزعيم والقائد والأب الملهم، اختارت أن تعيد ترتيب ذواتها ومن خلالها انطلقت لتعيد ترتيب الوطن الذي عاش عقودا طويلة تحت نير القمع والاستبداد وحكم الفرد والعائلة الواحدة، اختارت هذه الشعوب -وهو الأهم في رأيي- أن تعيد ترتيب هويتها الثقافية، أن تصنع تلك الهوية بعيدا عن الفلسفات الفارغة التي أُتخمت بها من قبل منظرين ومتثاقفين.
كشفت الثورات العربية عن وجه كالح لمثقفين طالما كانوا طبالين لأفكار الثورات والحرية والتقدم، مثقفون شاخوا وهم يسقون شعوبنا الوهم، شاخوا وهم يحقنون شعوبهم بالأمل والوهم الكاذب، شاخوا وهم يبيعوننا بطولات وانتصارات، حققوا أغلبها في فنادقهم المترفة، على موائد هذا الزعيم أو ذاك، طبلوا وزمروا حتى بح صوتهم، فانكشف كل ذاك الزيف بانبلاج فجر الشعوب العربية.
لعل أخطر شيء على أي شعب في الكرة الأرضية هو وقوعه تحت سطوة جوقة من المثقفين الفاسدين الكاذبين، وللأسف، كان بعض هؤلاء يسطرون ثقافتهم على أوراق صحفنا ومجلاتنا وإعلامنا لسنوات، يعارضون النظام ويدعون للحرية، ينادون بالتعددية وحرية الفكر والثورة في بعض الأحيان، غير أنهم سرعان ما تخلوا عن كل ذلك مع انطلاق شرارة البحث عن غد الشعوب الأجمل الذي جاء خارج نطاقات توقعاتهم، وسيطرتهم حتى، فوقفوا ضدها، شككوا بها وبنوايا الشعوب، انكشفوا، كان زيف كل ما يقولونه مرتبا مع السلطة والنظام سواء في هذا البلد أو ذاك.
قيل -وسيبقى يقال- إن أخطر شيء على الشعوب أن يتحول العلماء إلى وعاظ للسلاطين يفتون بما يريد هؤلاء، يتملقونهم، ولعل الخطر الآخر أيضا أن تفسد طبقة المثقفين، وأن تتحول إلى طبقة متملقة قابضة ثمن كلامها، شعرها ونثرها، تعيش الوهم وتسقيه من بعدها للشعوب، وكان ذاك لسنوات طويلة في بلادنا العربية، علماء تحولوا إلى وعاظ للسلاطين على رأي عالم الاجتماع العراقي علي الوردي، وطبقة من المثقفين، تقبض ثمن كلامها، تعارض إذا ما طلب منها النظام، وتؤيد لنفس السبب، فتاهت الشعوب وخربت البلاد.
وتستمر مسيرة الخداع التي تمارس على الشعوب باسم الثقافة، فبدلا من أن ينحاز هؤلاء المتثاقفون إلى خيار الشعب نجدهم يتحدثون عن مؤامرة هنا وأخرى هناك، عن دور تآمري لهذا الطرف أو ذاك، نجدهم يزينون حتى القتل باسم الممانعة والمقاومة كما يحصل كل ليلة على شاشات القنوات التابعة للنظام السوري التي صارت متخصصة باستضافة متثاقفون من لبنان، وطبعا ليس كل مثقفي لبنان، وإنما متثاقفون من تيار حزب الله، تيار المقاومة الذي صدع الرؤوس بها لسنوات، وبنى مجده الوهمي على أشلاء جثث اللبنانيين والفلسطينيين أولا ومن ثم اليوم يسعى ليتسلق على جثث السوريين.
وتزداد خطورة أدعياء الثقافة عندما يضمرون خلفياتهم الطائفية، ويتمترسون خلف شعارات وطنية جوفاء، يحاولون أن يزينوا قبيح أهدافهم بها، تزداد خطورة هؤلاء بإخفاء ميولهم الإيديولوجية بشعارات المقاومة، فينخدع بها البسطاء، كما حصل لسنوات مع أدعياء المقاومة، ومن ثم تحصل الصدمة مع أول اختبار حقيقي لهم، فينحازون للجلاد على حساب الضحية لا لشيء سوى لاتفاق الإيديولوجيات والطائفة ربما.
الشعوب العربية كشفت اللعبة، وبات الجميع يلعب على المكشوف كما يقال، فلم يعد أحد يصدق تلك الهرطقات الإعلامية والبالونات التي تتخفى خلف عناوين كبيرة، وهي في حقيقتها جوفاء خاوية إلا من بعض العبارات التي حفظتها خلال سني ممارسة الخداع على الشعوب.
في سوريا اليوم، يرفع المتظاهرون يوميا شعارات تهاجم أولا إيران وحزب الله قبل روسيا والصين، تهاجم نصرالله وخامنئي، وهي التي وقعت لسنوات طويلة تحت وهم مثقفيها الذين زينوا لهم أفعالهم، صوروهم وكأنهم حماة فلسطين ومحرري الجولان.
انكشفت الأوراق، وبات ميزان الشعوب ونظرتها إلى الأمور أصدق وأدق من رؤية مضللة تقودها أبواق ناطقة بالكذب والخداع والتضليل.
أجمل ما في هذه الثورات أنها حطمت كل تلك الأصنام التي صنعتها في يوم ما أبواق المتثاقفين. أجمل ما في هذه الثورات أنها أعادت ترتيب أوراق الأهميات، فلا مقاومة بلا حرية، ولا ممانعة بلا كرامة، ولا تصد بلا جبهة داخلية يحميها الشعب أولا.
أكيد أن الشعوب العربية تحتاج إلى مثقفيها، ولكن الأكيد أيضا أن هذه الشعوب لن تترك مصائرها بيد بيادق الأنظمة بعد الآن، الأكيد أن هذه الشعوب صارت قادرة على التمييز، بعد أن بلغت سن الثورة، وبات كل شيء مكشوفا لها، فلقد رفعت الحجب، ولم تعد الحقيقة حكرا على الطبقة المثقفة.