صبحي حديدي
أحدث الجولات، في سياق الطور الراهن من خيارات العنف التي يعتمدها النظام السوري لكسر الانتفاضة الشعبية، العارمة المتعاظمة منذ تسعة أشهر ونيف، هذه المعركة العجيبة التي تدور اليوم: بين عدنان السخني، محافظ النظام في الرقّة، شمال شرق سورية، في صفّ السلطة؛ وحفنة من أشجار الزيتون، في المزرعة المتواضعة التي يملكها المحامي والناشط المعارض عبد الله الخليل، في الصفّ المقابل.
ونعرف أنّ الاحتلال الإسرائيلي، والفقه الصهيوني إجمالاً، يكره أشجار الزيتون، ولا يتورّع عن اقتلاعها بشتى الذرائع، أو حتى من دون ذريعة؛ لكنّ المرء يتساءل عن هذا المزاج الفاشي الذي يحكم عقل المحافظ السخني، ضدّ أشجار الزيتون تحديداً، فيدفعه إلى عدم الاكتفاء بهدم منزل الخليل (تماماً كما يفعل الصهاينة بالفلسطينيين)، بل يجاريهم في بغض هذه الشجرة المباركة.
ويكتب الخليل، وأضعف الإيمان أن نقتبس سطوراً من مناشدته إلى الرأي العام: 'الأشجار عمرها أكثر من خمسة عشر عاماً، وهي في طور الإنتاج الكامل (...) القليل جداً من دول العالم من يلجأ لهذا الأسلوب ويقطع الأشجار، إنها طريقة الإنسان البدائي الأول، وتدل على قصر النظر، ومحاولة يأسه لكسر الإرادة. لقد أرسلوا الكثير من الرسائل الواضحة والصريحة، طالبين الكف عن مساندة المعتقلين والدفاع عنهم، ويبدو أن الرسالة القادمة هي اقتلاع أشجار الزيتون. إن تلك الأشجار عزيزة علي، وليس هناك من شجرة إلا ومسحت يداي أغصانها أوجذرها أو ثمرها، رغم كثرة عددها، إلا أنها ليست أغلى من سورية وحرّيتها'.
ثمة، بالطبع، جرائم أبشع بكثير من هذه التي يزمع محافظ الرقة ارتكابها، وثمة سياسات أرض محروقة اعتمدتها مختلف أجهزة السلطة ضدّ الأرض بما عليها من بشر، وليس الشجر وحده، أو الزرع والضرع. بيد أنّ هذه الواقعة تنطوي على رمزية خاصة مزدوجة، يتمثل مدلولها الأوّل في ما سبقت الإشارة إليه من اشتراك سلطات النظام مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي في الموقف من هذه الشجرة تحديداً؛ وينتهي مدلولها الثاني إلى طبائع سلوك رجالات الصفّ الثالث من معمار النظام، أي أمثال الوزير، أو المحافظ، أو رئيس فرع مخابرات أو أمن جنائي، أو رجل اعمال شبّيح متعهد لقطعان شبيحة هنا أو هناك. هي، على هذا، رمزية تصنّف التركيب البشري، إذا جاز التعبير، لنظام آفل مندحر منهزم، يقاتل بكلّ الأسلحة لتحسين شروط انسحابه من المعركة، إذْ أنّ بقاءه رُفع من لائحة الخيارات، وصار محالاً.
وحلم رجال الصفّ الثالث هؤلاء يمتزج عندهم بالكابوس، على نحو مطابق تماماً في حالات عديدة: إذا أجاد تطبيق سياسات القمع والقهر والتنكيل بالمواطنين، والمتظاهرين بصفة خاصة، أو إذا ابتدع وابتكر أساليب أقذر وأشنع، فإنه قد يرتقي إلى أعلى في مدرّج المعمار؛ أو، على النقيض، إذا تعثر أو قصّر أو خاب، فإنه يُخسف إلى أسفل، إذا لم يخضع بعدئذ إلى حساب عسير. مزدوجة، كذلك، وسائل السلطة في ضبط هؤلاء عند حدّ فاصل، قاطع كالسيف: الترغيب، وغضّ النظر عن الفساد والإفساد والمباذل كافة، بل تشجيعها وتسهيل الانغماس فيها؛ وإلا، فالترهيب بأكثر من سيف واحد مسلط على رقاب هذا الصنف من رجالات النظام، حيث تتراوح السيوف بين العزل أو التأديب أو المحاكمة أو الإقصاء، ولا يغيب عن بعض نماذجها قرار التصفية الجسدية المباشرة.
إلى الطابق الثاني من معمار النظام ينتمي بعض رؤساء الإدارات الأمنية المركزية، وأعضاء القيادة القطرية لحزب البعث، والفئة العليا من التجار ورجال الأعمال (شركاء، وخدم، أفراد من الطابق الأوّل في المعمار، حصراً، من أمثال الأخرس والشلاح والغريواتي والنحاس، وطلاس، والشهابي، وحمشو...)؛ فضلاً عن شخصيات منتخَبة من 'الحرس القديم'، سبق لهم أن تسيدوا في القطاعات الأمنية والعسكرية الحساسة، ثمّ تقاعدوا أو أُقيلوا لأسباب متباينة. ومفردة 'بعض' تفيد، هنا، في التشديد على أنّ هذا الطابق ليس مفتوحاً لجميع شاغلي تلك الوظائف بالضرورة، أو بحكم الموقع الصرف، إذْ يعتمد أمر اقترابهم من آلة القرار العليا على معايير غير ثابتة البتة، وغير مستقرّة، تتفاوت وتتبدّل وفقاً للمتغيّرات في رأس الهرم.
وعلى سبيل المثال، صحيح أنّ اللواء عبد الفتاح قدسية هو رئيس جهاز المخابرات العسكرية؛ إلا أنّ نائبه اللواء علي يونس ليس بعيداً عن الهرم، بل لعلّه أقرب إليه من رئيسه المباشر؛ وكذلك الحال مع اللواء جميل حسن، مدير إدارة المخابرات الجوية، الذي ـ رغم طاعته العمياء لسادته، ومزاجه الدموي الشهير ـ ليس أقرب إلى الحلقة الأثيرة من العقيد قصي ميهوب، رئيس فرع حرستا (والمهندس المرجّح خلف الهجوم الكاريكاتوري المزعوم ضد مقرّ الفرع). في مصنّف آخر، يتمتع رجال من أمثال اللواء المتقاعد علي دوبا واللواء المتقاعد محمد الخولي (الأوّل قاد المخابرات العسكرية طيلة عقود، وكذلك فعل الثاني في مخابرات القوى الجوية) بصلاحيات خاصة إثر تعيينهما مستشارَين للشؤون الأمنية، والتحاقهما بمكتب خاصّ في القصر الجمهوري، ومنحهما التخويل باستدعاء أو فرز عدد من الضباط المتقاعدين أو الإحتياط أو العاملين في مواقع أمنية وعسكرية أخرى، للإنضمام إلى ذلك المكتب (الأمر الذي لا يمكن أن يتمتع به قدسية أو حسن).
داخل الحلقة الأعلى، الأضيق، وحتى قبل أسابيع معدودات، كان يتربع بشار الأسد (في شخصيته الأمنية والعنفية الأقصى اعتمالاً، واكتمالاً، منذ توريثه صيف 2000؛ وفي صفات كانت خافية تماماً على كثير من المغفلين أو المتغافلين ـ حتى في صفوف المعارضة ـ ممّن آمنوا بشخصياته الأخرى، 'المسالمة' أو 'الإصلاحية' أو 'الشابة' أو 'الممانِعة'...)؛ صحبة العميد ماهر الأسد (الشقيق، والقائد الفعلي للفرقة الرابعة والحرس الجمهوري، والمنفِّذ الثاني للحلّ الأمني، بعد شقيقه الكبير)؛ والعميد ذو الهمة شاليش (ابن عمّة الأسد، ورئيس حرسه الشخصي، والمشرف الفعلي على جهاز أمن الرئاسة، وصاحب الصلاحيات الأمنية والعسكرية والمالية الواسعة التي تتجاوز بكثير رتبته العسكرية أو موقعه الوظيفي)؛ والعميد حافظ مخلوف (ابن خالة الأسد، والضابط الأبرز في الفرع 251، والأقوى نفوذاً في جهاز المخابرات العامة بأسره)؛ واللواء علي مملوك (المدير الرسمي للجهاز ذاته). في الخلفية، ودون أن يشارك مباشرة في الاجتماعات الدائمة لهذه الحلقة، لا يغيب رامي مخلوف ـ بوصفه صيرفيّ النظام الأدسم، والأخلص، وليس ابن خال القصر فحسب ـ عن صنع القرارات الحاسمة، تماماً كما كشف بنفسه في الحوار الشهير مع أنتوني شديد، من صحيفة 'نيويورك تايمز'.
اليوم تشير التقارير إلى تبدّل ملحوظ لا يمسّ التركيبة الفعلية، وإنْ كان يعزّز القبضة العائلية على السلطة، أكثر من ذي قبل، وربما على نحو غير مسبوق طيلة 41 سنة من عمر 'الحركة التصحيحية'. ذلك لأنّ حافظ مخلوف قد هبط من علٍ، كما يتردد (وكما توحي أنباء فشله في محاولة السفر إلى روسيا أوّلاً، ثمّ إلى سويسرا مؤخراً)، بسبب الحصيلة غير المرضية لأدائه الأمني في العاصمة دمشق تحديداً، ونطاق عمل فرع المنطقة عموماً، بالقياس إلى ما تمتّع به من نفوذ وسلطات. كذلك تشير التقارير إلى أنّ العماد آصف شوكت، نائب وزير الدفاع، قد حلّ مؤخراً محلّ مملوك، بل ونُقلت أنباء عن لقاء عاصف بين الرجلين كاد أن يودي بأحدهما، على أيدي المرافقين! وإذا صحّت هذه المعلومات، وثمة الكثير من المعطيات التي تؤكدها من واقع حركة الأجهزة المركزية ومناقلات الضباط، فإنّ آلة القرار انضغطت أكثر فأكثر، حتى صارت مقتصرة على عائلة الأسد، والصهر، وابنَيْ الخال!
وبالمقارنة مع مفصل هامّ في تاريخ 'الحركة التصحيحية'، صبيحة اغتيال رفيق الحريري (وذاك تطوّر نوعي حاسم في سنوات حكم الأسد الابن، أيضاً)؛ كانت 'القيادة السورية' ـ والمزدوجات، هنا، مردّها غموض التعبير، وطابعه الاصطلاحي غير المتجسد في الواقع العملي ـ تتألف من الأسد، وشقيقه ماهر، واللواء غازي كنعان وزير الداخلية آنذاك، واللواء آصف شوكت رئيس الاستخبارات العسكرية، واللواء بهجت سليمان الرجل الأقوى في جهاز أمن الدولة، وعبد الحليم خدّام النائب الأوّل للرئاسة والمدنيّ الوحيد في الرهط. فيما بعد، انتُحر كنعان (إذا جاز هذا الاشتقاق!)؛ وانشقّ خدّام (إذا جاز تصنيف عزله انشقاقاً!)؛ واعتكف شوكت (بعد مشاحنات مع الأسد، نجمت عن فضائح أداء جهازه إزاء قصف موقع 'الكبر' واغتيال العميد محمد سلمان، وقبله اغتيال عماد مغنية...)؛ وخُسف سليمان إلى مرتبة سفير، في العاصمة الأردنية عمّان. وما انضمام رجال من أمثال شاليش ورامي وحافظ مخلوف، وعودة شوكت بعد مصالحة عائلية اقتضتها معركة المصير، إلا ردّة إلى الوراء في عُرف التقاليد الأمنية الصارمة التي أرساها الأسد الأب طيلة عقود، وانحطاط في سوية المعايير، كان محرّكه الأوّل أنّ انتفاضة الشعب السوري لم تجبّ ما قبلها على صعيد تقويض جدران الخوف كافة، فحسب؛ بل جبّت أيضاً، وقزّمت، وهزمت، معظم أركان الفلسفة الأمنية للنظام.
وإذا صحّ القول إنّ في وسع النظام أن يعثر دائماً على بدائل لأمثال كنعان وخدّام وسليمان ومخلوف، مثلما فعل الأسد الأب عندما استبدل أمثال حكمت الشهابي وعلي حيدر وناجي جميل وشفيق فياض وابراهيم الصافي ومحمد حيدر وعبد الرؤوف الكسم... في وسع الأسد الابن أن يستبدل معظم أعضاء حلقات النظام الأضيق، بآخرين أعلى كعباً في الولاء والبطش والاستبداد والنهب. بيد أنّ السؤال يظلّ، مع ذلك، قائماً وعالقاً: لماذا يتوجب على البدلاء أن يفلحوا في ما عجز عن إنجازه الأصلاء؟ وحتام تملك أيّة حلقة، عتيقة أو جديدة، مفتوحة أو مغلقة، مهارات دموية ودامية لإيقاف مسيرة سورية نحو مستقبل أفضل؟
وكم من الأشجار ـ زيتون رقّاوي، ونخيل ديريّ، وكرز إدلبي، وفستق حلبي، ومشمش حموي، ولوز شامي... ـ ينبغي أن يقتلع النظام، في مستوياته الثلاثة وحلقاته كافة، كي تُبعث عظام رميم، هي آخر ما تبقى من حكم مستبدّ فاسد، آيل إلى زوال؟
- آخر تحديث :
التعليقات