محمد أيوب


في الأسابيع القليلة الماضية أصبحت تركيا في طليعة السياسة الغربية العربية التركية المشتركة الرامية إلى إرغام الرئيس بشّار الأسد على التخلي عن السلطة في سوريا . وهذا يشكل تحولاً كبيراً في السياسة التركية، لأن حكومة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان كَبدَت نفسها على مدى العامين الماضيين قدراً كبيراً من العناء في رعاية العلاقات الطيبة مع سوريا المجاورة التي تشترك معها في حدود برية طويلة .

ولا شك أن تغيير المسار على هذا النحو في التعامل مع سوريا كَلف تركيا أيضاً الكثير في ما يتصل بعلاقتها بإيران، الداعم الرئيس لنظام الأسد، وهي العلاقة التي كانت تركيا حريصة على رعايتها أيضاً بوصفها جزءاً من سياسة ldquo;عدم الدخول في أي مشكلات مع الجيرانrdquo; التي انتهجها وزير خارجيتها أحمد داوود أوغلو .

جدير بنا أن نتذكر على ضوء هذه التوترات الجديدة كيف استشاط العديد من الزعماء الأمريكيين غضباً قبل أشهر قليلة إزاء ما اعتبروه خيانة من جانب تركيا . فمن منظورهم، أعادت تركيا توجيه سياستها الخارجية نحو الشرق الأوسط المسلم وبعيداً عن الغرب، وهو التحول الذي انعكس كما افترضوا في تدهور العلاقات التركية ldquo;الإسرائيليةrdquo; وتحسن العلاقات مع إيران وسوريا .

والواقع أن العديد من صناع القرار السياسي وخبراء الشؤون الدولية الأمريكيين، غير القادرين على التمييز بين العلاقات التركية ldquo;الإسرائيليةrdquo; والعلاقات التركية الأمريكية، أو غير الراغبين في ذلك، ذهبوا إلى تفسير إدانة أردوغان للحصار الذي تفرضه ldquo;إسرائيلrdquo; على غزة باعتباره محاولة للتقرب إلى جيرانه العرب على حساب علاقات تركيا ليس فقط بrdquo;إسرائيلrdquo; بل والغرب عموماً . ولم تحظ محاولة تركيا للوساطة بين القوى الغربية الكبرى وإيران بشأن المخزون من اليورانيوم لدى الجمهورية الإسلامية بتقدير الغرب؛ بل إن الولايات المتحدة أحبطت هذه الجهود بعد أن بدا الأمر وكأنها على وشك أن تؤتي ثمارها . ثم جاء تصويت تركيا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في وقت لاحق ضد فرض عقوبات إضافية على إيران، فبدا وكأنه الدليل على تبني تركيا لسياسة خارجية ldquo;إسلاميةrdquo; .

إن هذا التخوف الأمريكي يفترض أنه من قبيل التناقض أن تسعى تركيا إلى إقامة علاقات طيبة مع كل من الغرب والشرق الأوسط الإسلامي، وأن القرار الذي اتخذته أنقره بتحسين علاقاتها بجيرانها المسلمين كان مدفوعاً في المقام الأول بمخاوف دينية وأيديولوجية عدّها حزب العدالة والتنمية الحاكم على جانب كبير من الأهمية . بيد أن العلاقات المتوترة بين تركيا وإيران في الآونة الأخيرة تثبت أن هذا الافتراض مغلوط في الأساس، وتشير إلى سياسة خارجية غير أيديولوجية تلبي المصالح الوطنية التركية، كما يحددها أهل النخبة السياسية في البلاد، بمن فيهم حكام اليوم الذين ينتمون إلى عصر ما بعد الإسلاميين .

في مستهل الأمر كان الخلاف بين تركيا وإيران يدور على تناولهما المختلف للتمرد الداخلي ضد الأسد في سوريا . والواقع أن إيران أنفقت بكثافة في دعم نظام الأسد، حليفها العربي الوحيد والقناة الرئيسة لتسليم الدعم المادي لحزب الله في لبنان . ومن ناحية أخرى ألقت تركيا بثقلها بالكامل، بعد بعض التردد في البداية، خلف معارضي الأسد، فعمدت بين أمور أخرى إلى توفير الملجأ لمعارضي الأسد، فضلاً عن المنشقين عن الجيش السوري . بل إن تركيا ذهبت إلى ما هو أبعد من هذا، فساعدت المعارضة السورية المنقسمة لتوحيد قواها على أرضها وتأسيس جبهة مشتركة ضد نظام الأسد لتوفير بديل معقول له .

لقد تحولت تركيا على نحو مفاجئ عن موقفها من سوريا وانحازت إلى القوى الغربية الكبرى لسببين: الأول أن حزب العدالة والتنمية الحاكم لم يكن ليتحمل أن يُنظَر إليه باعتباره معارضاً للديمقراطية في سوريا، خاصة أن شرعيته تستند بشكل كبير إلى مؤهلاته الديمقراطية . والثاني أن حكومة أردوغان سعت بمجرد أن استنتجت أن سقوط نظام الأسد بات حتمياً إلى تأمين مصالحها المستقبلية في سوريا التي تمثل أهمية استراتيجية بالنسبة إلى تركيا، حتى لو كان هذا يعني المجازفة بالعلاقات مع إيران .

ثم تفاقم استياء إيران إزاء ldquo;خيانةrdquo; تركيا للأسد بعد القرار الذي اتخذته حكومة أردوغان مؤخراً بإقامة منشأة تابعة لمنظمة حلف شمال الأطلسي للإنذار المبكر المضاد للصواريخ في ملاطية في شرقي تركيا، بهدف تتبع النشاط الصاروخي الإيراني . ووفقاً للسلطات الإيرانية فإن نظام حلف شمال الأطلسي مصمم على تحييد قدرة الردع الإيرانية في مواجهة ldquo;إسرائيلrdquo;، وبالتالي زيادة احتمالات شن ضربة ldquo;إسرائيليةrdquo; أمريكية ضد المنشآت النووية الإيرانية . ولقد ذهب المسؤولون الإيرانيون إلى حد تحذير تركيا بأنهم سوف يجعلون من منشأة ملاطية هدفاً أول لانتقامهم في حال تعرض إيران لضربة غربية .

بيد أن ldquo;إسرائيلrdquo; قادرة في واقع الأمر على تتبع الصواريخ الإيرانية من عِدة مواقع غير ملاطية . وبالتالي فإن التهديد الإيراني يُعَد تعبيراً عن الاستياء من تركيا أكثر من كونه قلقاً حقيقياً من قدرة منشأة ملاطية على التأثير سلباً في قدرة الردع الإيرانية .

وتعكس التوترات الإيرانية التركية ثلاث حقائق أبعد أثراً . الأولى أن الربيع العربي، وخاصة الانتفاضة السورية، كشف عن التنافس المضمر بين كل من الجانبين لفرض النفوذ على الشرق الأوسط والعالم العربي . والحقيقة الثانية أن تحول تركيا باتجاه الشرق لم يكن مستلهماً من الأيديولوجية أو الدين، بل إنه استند في واقع الأمر إلى حسابات استراتيجية واقتصادية مُحكمة، ومن المؤكد أن تركيا سوف تكيف سياساتها وفقاً لتطور الوضع المائع في الشرق الأوسط . والحقيقة الأخيرة أن تركيا استثمرت الكثير في علاقاتها الاستراتيجية بحلف شمال الأطلسي، وبالولايات المتحدة بشكل خاص، ومن غير المتصور أن تبدد استثماراتها هذه في مقابل مكاسب غير مؤكدة من علاقاتها مع إيران .

هذا لا يعني أن تركيا سوف تعود إلى اعتمادها الاستراتيجي التقليدي على الولايات المتحدة وحلفائها، وهو النهج الذي اتسمت به السياسة الخارجية التركية طوال سنوات الحرب الباردة والعقد الذي أعقب نهايتها . بل إن حكومة حزب العدالة والتنمية ملتزمة باستقلال تركيا استراتيجياً، وبالتحرك بقدر أعظم من النشاط في الشرق الأوسط . ولكنها تعي أيضاً أن مثل هذه السياسات يجب ألا تكلف تركيا علاقاتها مع حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة .

إن تركيا منخرطة الآن في جهود عسيرة رامية إلى الحفاظ على علاقاتها القديمة بالغرب في حين تعمل في الوقت نفسه على بناء علاقات جديدة مع جيرانها المسلمين . ومن الواضح أن قادة تركيا يدركون أن أفضل وسيلة لاحتفاظ البلاد بنفوذها لدى الجانبين تتلخص في صيانة العلاقات الجيدة مع كل منهما .