محمد عبدالله محمد

تحدثنا قبل يومين عن معضلة التعامل الغربي مع إيران. السِّلم، الحرب، العقوبات جميعها لم تفِدْ. ثم خلصنا إلى شكل المواجهة الأخيرة، والمحصورة في ضرب الاقتصاد الإيراني عبر تكديس أهم صادراته وهي النفط، بفرض عقوبات دولية عليه. ثم أحَلنا الفكرة على مفاعيلها على الأرض، وهي مكان المواجهة المحتملة، تلك الواقعة في مضيق هرمز، الذي تمرّ من خلاله 40 في المئة من مصادر الطاقة العالمية، وعدَّدنا المشكلات التي قد تواجه عمليات فرض المشروع بالقوة، وردّ الفعل الإيراني عليها عسكريًا، والذي قد يفاقم المشكلة أكثر ويعقدها بإحكام.

الآن نتساءل: هل يتجاوز الغرب كلّ تلك الصعاب ويتجرأ ليضرب إيران وينهي مؤجَّلاً تم تأجيله، ومُعلَّقاً لطالما تم تعليقه فيما خص النظام الإيراني؟ حسنًا، دعونا نرجع إلى أحداث عقد مضى. فالذاكرة مازالت نشِطة. الولايات المتحدة الأميركية خسِرت في حربَيْ العراق وأفغانستان ثلاثة تريليونات دولار ولم تنجح في تحقيق أهدافها، عبر تحويل العراق إلى منصة ديمقراطية في الشرق الأوسط تقيم علاقات طبيعية مع إسرائيل، وتعيد التوازن إلى منطقة الشمال الغربي لآسيا منافِسة بذلك دمشق، لتمتد إلى تحالف عراقي - تركي، يعوق تقدم الإيرانيين باتجاه المنطقة. بل إن العراق تحوَّل إلى محطة نفوذ إيرانية متقدمة، وأصبح أعداء واشنطن طيلة السنوات التسع من المقاومة الشيعية جزءًا من الحكومة بعد انضمام عصائب الحق إلى العملية السياسية، فضلاً عن حلفاء طهران الرئيسيين في العراق.

وفي أفغانستان، لم تستطع الولايات المتحدة أن تحوِّل هذا البلد إلى خاصرة في الجنوب الآسيوي، تربط شرق وغرب وجنوب ووسط آسيا لتخدم مصالحها، وتكون محطة لإزعاج الصين، وبديلا قبليا وإسلاميا مُهجَّنا عن الباكستان وجيشها واستخباراتها غير المضمون، وجدارا حدوديا هائلا للانقضاض على إيران عندما تحين ساعة الصفر. وهي اليوم (واشنطن) تحاور laquo;طالبانraquo;، وتفتتح لها مكتبًا تمثيليًا بشكل رسمي في الدوحة بسبب مصاعب تواجهها عسكريًا وسياسيًا على الأرض. في الوقت الذي تستولي فيه طهران على ما تبقى من حكومة حامد قرضاي، بنفوذها القديم في تحالف الشمال، وعبر الرشا التي تقدمها لشخوص مهميِّن في وزارة الدفاع والأمن والخدمات وحتى القصر الرئاسي بمن فيهم قرضاي نفسه.

هذا على مستوى الذاكرة الحربية للأميركيين. أما في التفاصيل الأخرى، فهي المتعلقة بطبيعة الصراع الغربي الإيراني عندما يقع. فإيران ليست دولة عربية، تستطيع الولايات المتحدة أن تستقوي بدول عربية أخرى ضدها كما جرى في ليبيا وتونس ويجري اليوم في سورية، بل هي الدولة الفارسية الوحيدة في العالَم، المحاطة بناطقين فرس يمتدون من أفغانستان حتى آسيا الوسطى، وتتنفس أيديولوجيًا ومذهبيًا بحالة تشيُّع تتشح به صَرَعات عرقية متماهية مع الدِّين، وبالتالي فإن الحرب ضدها ستكون دينية مذهبية وعرقية، وهو نوع جديد من الحروب التي قد تشنها الولايات المتحدة في منطقة ملتهبة من العالَم، تنطوي على تعقيدات بسبب حساسية منطقة الشرق الأوسط المنقسم أصلاً على ذاته، وهو ما يجعل ساحاتها (الحرب) ونتائجها مختلفة وغير مقروءة بالمرة.

في اعتقادي أن الولايات المتحدة إن أرادت أن تقوم بضربة عسكرية ضد إيران، فعليها أن تعيد ترتيب علاقتها مع الأطراف البعيدة والقريبة أولاً، لكي تستطيع أن توجه المعركة بعيدًا عن أي تعقيدات جيوسياسية واقتصادية. فهي يجب أن تبتعد عن استفزاز الصين في البحر الأصفر وعبر تايوان، أو تشجيع أنشطة الدالاي لاما والانفصاليين في التبت، وتقيم معها علاقات مستديمة، ومدِّها باليابان شرقًا، وتسوية علاقاتها بالهند فتكسبها في أيّ تسويات قد تجري في البحر الجنوبي للصين، وحتى في مسألة الكوريتين والنفوذ حول فيتنام، وبالتالي إرغامها لاحقاً على الوقوف محايدة عند وقوع ضربة عسكرية غربية أو إسرائيلية ضد إيران.

كذلك، على الولايات المتحدة الأميركية أن تبتعد عن التحرش بالروس في مناطق نفوذهم داخل آسيا الوسطى والبلقان، سواء في أوكرانيا أو جورجيا، وأن تمنح موسكو فرصة الوصول إلى المياه الدافئة في الخليج العربي، مثلما فعلت بعد الحرب العالمية الثانية عندما قاربت الفرنسيين بالألمان، وهؤلاء بالبولنديين لتستقر القارة في مواجهة المد الشيوعي. كما ان على واشنطن ألا تبعث برسائل سلبية لموسكو عبر تهميش حضورها الاقتصادي في الدول التي شهِدت تغييرًا سياسيًا في الشمال الإفريقي، فهذا الأمر يجعل من الروس يتمنعون ضد أيّ قرار تغييري قد يتخذه الغرب بحق أيّ دولة في منطقة الشرق الأوسط، وهو حالهم في الملف السوري، والذين أبدوا فيه تخوفًا من أن يتكرر المشهد من جديد معهم بعد ليبيا. هذه الترتيبات مطلوبة، للحصول على موقف روسي مَرِن يتخلى عن دعم الإيرانيين في المجال العسكري والطاقة النووية، ويُميِّع من مواقفهم ضد أيّ قرار عسكري يشَن على إيران.

كذلك، على الأميركيين، أن يفكُّوا من تحالف العراقيين مع الإيرانيين، عبر الضغط على الدول العربية لدخول العراق، وزيادة التمثيل الدبلوماسي النشِط فيه، وتشبيكه بأكبر قدر ممكن من العلاقات الاقتصادية والثقافية، مع إشراكه في صنع القرار العربي، لتعزيز حضوره في المحافل العربية، ومراعاة جزء من مصالحه في المنطقة. وهي إجراءات ضرورية لأن يفلت العراق من القبضة الإيرانية، وبالتالي يصبح الطريق أقل تعقيدًا للبدء بضربة عسكرية ضد إيران.

كذلك، أن تسوِّي الإدارة الأميركية مسألة الصراع العربي الصهيوني بصورة منصفة، يحس فيها العرب بأن واشنطن شريك عادل في التسوية. وربما أصبح هذا الملف (الفلسطيني) من أكبر الملفات السياسية استثمارًا من قِبَل الإيرانيين في المنطقة منذ قيام الثورة. فهو يبدأ من الأراضي الفلسطينية المحتلة (حيث حركات الجهاد الفلسطيني البارزة حماس، الجهاد، الجبهة الشعبية... إلخ) مرورًا بالأراضي اللبنانية (حيث هناك حزب الله وجزء مهم من الشتات الفلسطيني، وهما من أهم مراكز النفوذ الإيراني) وانتهاءً بمرتفعات الجولان، التي جعلت من سورية تتحالف مع الإيرانيين منذ العام 1980 ولغاية الساعة. فتسوية هذا الملف بطريقة عادلة، سيحرم الإيرانيين من ورقة سياسية مهمة لطالما استثمروها من قبل.

كذلك، على الأميركيين أن يسوُّوا بعض المشكلات الأخرى. فأولاً، عليهم أن يُبعِدوا الناب الفرنسي عن استفزاز الأتراك بملف الأرمن، وإسكات اللوبي الأرمني في الولايات المتحدة، الذي لطالما ساعد على إعاقة مشاريع كثيرة مشتركة بين أنقرة وواشنطن، وإبطال عدد من الصفقات العسكرية مع تركيا. ثانيًا، على الأميركيين أن يعيدوا ترتيب علاقاتهم مع السودان والجزائر وموريتانيا (حاليًا)، التي عادة ما تتخذ مواقف متباينة عن الحالة العربية الأوسع. حينها يُمكن أن تتخلى الصين عن تجارة الأربعين مليارا مع إيران، والهند عن غاز السلام النفطي، والروس عن دعم طهران عسكريًا ونوويًا. والعراقيين عن الاستناد السياسي والمذهبي بإيران الثورة، ويتخلى الأتراك عن 40 في المئة من حاجتهم النفطية، والفلسطينيين من حماس عن دعم إيران لقضية هي في الأصل غير موجودة. بالتأكيد، كل ذلك، يمهِّد (فقط) لبدء ضربة أميركية على إيران دون تعقيدات إقليمية ودولية، ولكن يبقى التساؤل حول مدى نجاحها (الضربة) على المستوى العسكري والميداني، ومدى القدرة على تغيير بنية السلطة في إيران