طيب تيزيني

كنا في المقالة الأخيرة قد طرحنا فكرة quot;المؤامرة الخارجيةquot; بوصفها تحديداً لما يحدث في سوريا منذ أكثر من أحد عشر شهراً. وحين توضع المسألة في هذا الموضع، فإن الكرة تكون قد أخرِجت من حاضنتها السوسيوثقافية والقضائية والسياسية. ومن أجل ضبط هذا الأمر، نواجه سؤالاً عن طبيعة تلك الفئات الثلاث، التي حددناها بالمندسين والإخوان والسلفيين، والتي يعتبرها النظام في سوريا quot;مصدر المؤامرة الخارجيةquot; المذكورة. ها هنا، نعود إلى مرحلة ما بعد الوحدة الفاشلة بين سوريا ومصر عام 1958، لنكتشف أن فشل هذه الوحدة تأتّى من سحب القوة الاجتماعية والسياسية والثقافية من كِلا البلدين سوريا ومصر، قبل الدخول في التوحيد بينهما، وذلك عن طريق إلغاء السياسة والمجتمع السياسي والتعددية الحزبية الديمقراطية. فبقي المجتمعان السوري والمصري حقلين جيو -سياسيين قابلين للاختراق والتفكيك من الداخل والخارج، بل من الداخل أولاً، وهذا ما حدث في سوريا، حين راحت قوى عسكرية تنشط من أجل الاستيلاء على السلطة بكيفية انقلابية.

تمَّ ذلك في عام 1963، حين جاءت قوى عسكرية وأحدثت انقلاباً أعلنت في سياقه الأحكام العرفية (التي لا تزال قائمة عملياً حتى الآن). وجاءت الخطوات الأخرى التي أطاحت بمظاهر المجتمع المدني، على ضعفها، وأسست معها لـquot;سلطة شموليةquot; يقود فيها الحزب الواحد الدولة والمجتمع. وهذا كان بداية التأسيس لنظام أمني يُختزل شيئاً فشيئاً إلى quot;حكم أقليةquot; تعلن قداستها، التي تتجسد بكونها فوق التاريخ وغير قابلة للمسِّ، هكذا إلى الأبد! إنها أقلية (أوليغارشيةquot; تجد مرجعيتها ليس في دستور أو قانون، بل في quot;نبالتها الأبديةquot;، دون سؤال أو مساءلة. ومع تتابع الانكسارات الوطنية في حقول التنمية السوسيو اقتصادية والسياسية والإنتاجية بحدودها وآفاقها الاستراتيجية، كما في الحقول الوطنية الخارجية الحاسمة، يتحول البلد إلىquot;سلعة دائرةquot; أمام الجميع لسرقتها.

وجاءت مرحلة السبعينيات، وتحويل كل ما يتحرك في البلد إلى سلعة. وأتت عملية تفكيك quot;الأحزاب السياسيةquot; عبر ضبطها بـquot;جبهة وطنية تقدميةquot; وراح الخراب يتوزع يميناً وشمالاً، لينتهي إلى quot;حطامquot;. أما الضوابط التي راحت تُمسك بكل شيء في البلد، فقد تبلورت في دولة أمنية، وكان من نتائج ذلك، انشطار المجتمع الداخلي إلى الساحة، سادة المال والجاه والحيازات الهائلة من طرف، وإلى جموع من البشر الهوام الذين راحوا يفتقدون الحد ما قبل الأدنى من الكفاية المادية والحرية والكرامة، من طرف آخر. وشيئاً فشيئاً اتضح أن وطناً حقيقياً بحدٍ أولي لا يمكن أن ينشأ بمواطنين لا يملكون حتى أجسادهم. وهنا نتذكر ما كتب quot;الكاتب المصري القديم، سنوحي، حين وصف الجموع الكبيرة من الفقراء والمُفقرين والمذلَّين المُهانين فقال: إن الواحد كان يبحث عن حفرة -قبر له، دون أن يتاح ذلك له، إن كل شيء أصبح من ممتلكات السادة وأعوانهم. هكذا وعبر عملية منتظمة مُنسّقة، تحول الناس إلى هوام.

ما الذي أنتج ذلك كله؟ لم يُنتج إلا ما عليه أن ينتجه: بشر يذكِّرون بـquot;البشر الذئبيينquot;، ومن ثم، فإن ظهور المندسِّين، الذين يُعلن إنهم هم الذين يقودون quot;المؤامرة الخارجيةquot; الكبرى ضد الوطن، إلا تعبيراً عن أولئك الذين استباحوا الوطن. ومن أجل فهم هذه المجموعة الثلاثية، ينبغي الإشارة إلى أن هذه الأخيرة إن كانت تتمثل بأنماط من الناس، فإن هؤلاء قد ولدوا في بلد لم يتح لهم أن يكونوا بشراً أحراراً بكرامة وعمل، فبحثوا عن حلول لم يجدوها أبداً. أما شباب الوطن فهم الذين كانوا على موعد عبر فتح التاريخ العربي، الذي بدا كأنه حقاً قد انتهى إلى نهاياته. وهذا ما يذكرنا بما كنا نحن آباء أولئك الشباب قد وقعنا فيه من سوداوية سياسية ونفسية وأخلاقية يائسة من الأبواب التاريخية، حتى جاء فاتحو التاريخ الجديد وراحوا يهيئون لولادة جديدة للوطن.