سليمان تقي الدين

لا يراكم اللبنانيون إصلاحاً منذ نشأ مجتمعهم السياسي، ومازالت تجربة الرئيس فؤاد شهاب مثالاً رغم أنها جاءت في ظروف أكثر ملاءمة من اليوم . أما تجربة الحركة الوطنية للإصلاح السياسي، فقد انتهت إلى دستور الطائف وهو مجموعة من المبادئ والأفكار التي سرعان ما صارت خارج التطبيق .

فشل الفكر الإصلاحي اللبناني في أن ينشئ الدولة الحديثة رغم وجود الإصلاحيين الكبار الذين قضوا وهم يحملون مرارة العجز . إصلاحيو اليوم أكثر بؤساً وشقاءً، وأمام هؤلاء معضلتان هما: الدولة السلطانية والمجتمع الشرقي المتخلف والمفكك . لا تقوم الدولة الحديثة إلاّ في مجتمع لديه مؤسسات سياسية شعبية حديثة، والمفارقة عندنا أن ما هو قائم في دستور 1926 وفي دستور 1990 أكثر تقدماً من المؤسسات السياسية المجتمعية . لدينا الكثير من الأفكار الإصلاحية، لكن ليست لدينا القوى الإصلاحية . الدولة التي أنشأها اللبنانيون العام 1943 هي دولة انطبعت بالشخصانية، برموز السياسة من الزعماء، بأحزاب الطوائف وممثلي المناطق، بضعف وهشاشة المكون الاجتماعي التوحيدي على المستوى الوطني . تجمّع اللبنانيون حول دولة الاستقلال ومازالوا يحاولون اقتسامها . قيل إنهم شعوب متعايشة متنازعة، لكن المبالغة هذه لا تنفي أنهم خليط مركّب من المصالح والنوازع والأهواء التي تجدّدت عبر التاريخ وتطورت بفعل الحداثة الاقتصادية والسياسية . يتحكم بالاقتصاد والثروة رأس المال وهو الأكثر بعداً عن العلاقات الشخصية والعاطفية والأكثر ldquo;شبحيةrdquo; في السيطرة والنفوذ، وهو الأكثر ldquo;قداسةrdquo; في سياسات الدولة والحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال . لا الملاّك الزراعيون ولا الصناعيون لهم أية هيبة تذكر منذ زمن بعيد، وكذلك سائر فئات وقطاعات الطبقة الوسطى وعصبها الأبرز في المهن الحرة .

المجتمع اللبناني تحكمه نخبة مالية تحالفها نخبة سياسية طائفية مصالحها مركّبة من خليط اجتماعي يتوحد في السياسة الطائفية وينقسم في السياسة الوطنية . هذا الموروث اللبناني هو نفسه تراث عربي مشرقي (مملوكي وعثماني) مجدول على الاقتصادات الحديثة التابعة لمركز النفوذ العالمي .

انتحر الإصلاحيون اللبنانيون بظروف وأشكال مختلفة، وهم يحاولون رتق هذه الدولة الخربة التي أنكرت على نفسها مبدأ الدولة الأساس الذي هو المجال العام والمصلحة العامة . هذا ldquo;العامrdquo; وهؤلاء ldquo;العوامrdquo; من الناس ليسوا مدار السياسة في لبنان الذي تسيطر على نظامه مجموعة من ldquo;الأعيانrdquo; وrdquo;الخاصةrdquo;، وتقوم سلطتها على ldquo;الامتيازاتrdquo; السياسية والاقتصادية التي يتم اقتطاعها باسم الطوائف وباسم فكرة الدولة . ما راكمه اللبنانيون من ثروات وخيرات ومنجزات يستثمر في خدمة الفريق المسيطر على عصب الاقتصاد وعصب السياسة، رجال المال وزعماء الطوائف .

ينشأ عن ذلك نزوع إصلاحي من مصدر ثقافي أو من ردة فعل على دونية الموقع أو محدودية الاستفادة أو عن تفاوت الامتياز . تتحول فكرة الإصلاح إلى نزوة أو صدمة أو شهوة ما تلبث أن تنطفئ أو يتم احتواؤها أو تطويعها أو محاصرتها، يصبح الإصلاح شذوذاً وأحياناً قحة ضد العرف السائد وتمرداً على القواعد والمقدسات . غالباً ما يسقط الإصلاح على يد فئة من الجمهور، إذ ينقسم الفلاحون والعمال والموظفون وصغار الكسبة والحرفيون ويطيّف الإصلاح حين يرتفع إلى مستوى السياسة .

رهنت الفئة المسيطرة بكل فروعها وتشعباتها الدولة لمديونية لم تستخدم في توسيع المجال العام الوطني . رصيد المديونية ذهب في خدمة تجديد النظام السياسي الاقتصادي وتعميق ملامحه الفئوية التفكيكية . ما أنفق على المؤسسة العسكرية هو استثمار سياسي وكذلك على فروع الأمن المتعددة . وما أنفق على البنية التحتية أدى وظيفتين في تعزيز المصالح المالية والعقارية والتجارية وتأمين شعبوية طوائفية تدعم سلطة هذا الفريق في إعادة تجديد الولاء عبر الخدمات والزبائنية . خلال عقدين من مشروع إعادة إعمار البيت اللبناني بعد الحرب ثم إدماج فئات وشرائح اجتماعية وسياسية في النظام وتشبيك مصالحها به . اتسعت الفئة المستفيدة من النظام واتسعت النخبة السياسية وتغيّرت بعض وجوهها لكنها اختصرت في مجموعة صغيرة من الزعماء الذين احتكروا الوطني واحتكروا السلطة وتقاسموها بحسب أولوياتهم السياسية والاقتصادية، وتحولت قوى الإنتاج والعمل إلى ضحية لهذا النظام، ولو بتفاوت، وجرى خفض قيمة وأهمية الفئات الاجتماعية المنتجة للعلم وللثقافة والمعرفة وتحوير معظم هذه الطاقات إلى البعد التجاري في الجامعات الخاصة والمؤسسات التي تتوخى الربح، وكذلك كل قطاعات الخدمات التي تضطلع بها الدولة تبريراً لوظيفتها كموزع للدخل الأهلي والثروة الوطنية مقابل استيفائها الضرائب والرسوم . خلقت الدولة فوضى هائلة من تنازع المصالح الطائفية وتضخّم حجمها خارج الدولة، وكل قرار يحتاج إلى تسوية سياسية أو إلى معادلة من التوازنات تعبّر عن نفسها في تنازع الصلاحيات وتوزيعها . لكن الدولة تواجه أخطر من ذلك وهو الضغط الخارجي الذي يحاول جذبها إلى انحيازات لا تملك أن تتخذ حيالها قراراً موحداً فتلجأ إلى السياسة الباطنية والإرجاء والتأجيل في التعامل مع الملفات السيادية .

ترجئ الدولة خياراتها بوصفها كياناً حقوقياً دولياً وتمارس السياسة الخارجية في حدود ما تستطيع إنتاجه من تسويات داخلية . استطاعت الدولة السلطانية أن تحافظ على استمرارها في بيئة إقليمية حاضنة بدأت اليوم تتغيّر وتعاني أزمات ومشكلات شبيهة بالصورة اللبنانية، فإذا كان التغيير حاجة عربية فرضت نفسها فهو حاجة لبنانية لا يمكن تأجيلها .

هذا التغيير الذي ينقل لبنان إلى الدولة الحديثة يبدأ من إعادة تكوين المؤسسات السياسية الشعبية على المصالح الموحدة بين كل المهمشين من النظام الطائفي وقواه . فهل تسبق تداعيات الأزمة الاجتماعية كل القوى السياسية أم تقوم على تحفيز حضورها؟