جابر عصفور

ربما كان الأكثر لياقة أن أجعل العنوانrlm;:rlm; لقاء مع رئيس الجمهورية التونسية الدكتور محمد المنصف المرزوقيrlm;,rlm; ولكن تواضع الرجل وبساطة اللقاء الذي لم يشعرنا بأننا نقابل رئيس جمهوريةrlm;,

بل مثقف مثلنا, نحاوره كما نتحاور عادة, ودون أي شكل من أشكال البروتوكول الرسمي, ولم يطلب منا أحد أخذ أو إغلاق ما نحمل من موبيلات خصوصا أن الرجل قابلنا كما يقابل الأصدقاء بلا حواجز. ولحسن الحظ أني أعرفه من سنوات.
وكنت أقول لأصحابي, ونحن في الطريق إلي قصر الرئاسة. هذه هي المرة الأولي التي يتولي فيها مثقف عميق الفكر, شمولي النظرة, مدني النزعة, قومي الأصل منفتح علي التيارات اليسارية, رئاسة جمهورية في العالم العربي, وهو أمر لم يسبق له وجود من قبل, وليس له نظير في بلد آخر غير تونس. صحيح أن محمد المنصف المرزوقي طبيب, وكان يعمل أستاذا بكلية الطب بجامعة سوسة. ولكنه قبل وبعد ذلك مفكر ثقيل الوزن, له كتبه ومقالاته التي نشرها بالفرنسية والعربية. وهو يؤمن بحتمية وجود الدولة المدنية الحديثة إيمانا لا شك فيه. شأنه في ذلك شأن مصطفي بن جعفر رئيس حزب التكتل( وهو طبيب مثل المرزوقي) وراشد الغنوشي رئيس حركة النهضة التي تمثل الأغلبية في التكتل الثلاثي( الترويكا) الحاكم. ولذلك فإن الصفة المدنية للدولة هي الصفة التي تجمع بين أحزاب الائتلاف.
المهم وصل ركبنا إلي القصر الجمهوري الذي كان يشغله الرئيس السابق, ولم يكن الأمن فظيعا ولا كثيف العدد. واستقبلنا أحد الأمناء الذي قادنا إلي قاعة الاستقبال التي استقبلنا فيها المنصف المرزوقي باسما, وجلسنا حوله وأخذ في تلقي أسئلتنا وتعليقاتنا واحدا بعد الآخر, مؤجلا الإجابة علينا جميعا إلي ما بعد الانتهاء. وبعد أن انتهينا جميعا من الكلام, وهو صامت, يستمع بكل انتباه كعادته, أخذ في شرح الأوضاع. وبدأ كلامه بأن الثورة التونسية فجرت بئرا, خرجت منه نقائض كثيرة, بعضها سلبي, وبعضها إيجابي, وأخذ يعدد لنا السلبيات, وأولها العناصر المنتمية إلي النظام القديم, والتي تريد أن تعيد عقارب الساعة إلي الوراء, وذكر ضمن كلامه عن هذا الجانب أن حكومة الائتلاف الثلاثي( الترويكا) ليس لها إعلام قوي, وأن أغلب أدوات الإعلام يسيطر عليها رجال النظام القديم, ولذلك لا تقدم صورة أمينة عن الإنجازات الإيجابية, مضيفا إلي ذلك أن الإعلام الفرنسي يتخذ الموقف نفسه, ولذلك فإنهم يضخمون الأحداث العادية, ويجعلون منها كوارث غير عادية. وقال الجملة التي أدهشتني إن الحكومة الثورية ليس لها إعلام يدافع عنها, أو يتحدث بإنصاف عن إنجازاتها. وكدت أسأله: ولماذا لم تؤسسوا إعلامكم الخاص؟, ولكني صمت متعمدا, فقد أردت أن لا أقطع استرساله في الحديث. وانتقل الحديث بعد ذلك إلي الأوضاع الاقتصادية التي ارتبكت نتيجة الإضرابات وأحداث الثورة. وكان سؤال أحد أعضاء النادي الثقافي العربي حول هذا الموضوع بالذات راجعا إلي أننا سألنا بعض العاملين في الفندق عن أوضاعهم الحالية, فأجابوا شاكين من سوء الأحوال الاقتصادية, متمنين أن يعود زمن الرئيس السابق. وكنت أعرف أن لهذه الشكوي أمثالها التي تحدث في مصر, خصوصا في القطاعات التي تأثرت سلبا بأحداث الثورة ولوازمها وعلي رأسها قطاع السياحة. وكان من الطبيعي أن ينطلق الكلام إلي الائتلاف الثلاثي( الترويكا), وهل يقبل أحزابا جديدة تنضم إليه؟. ولم تكن الإجابة مباشرة, ولكننا استشعرنا الرضا عن الائتلاف, وأنه يحقق المعادلة التي تبرر نجاحه والمرتبطة بحرص الأطراف الثلاثة للترويكا علي أن يكون أساس الائتلاف روابط سياسية محضة وليست روابط إيديولوجية. والحق أن هذا الجانب يمثل فارقا حاسما بين وضع الحكم في مصر ووضع الحكم في تونس. وفي هذا السياق لابد من الإشادة بانفتاح حركة النهضة, وإيمانها الحقيقي بالائتلاف الوطني. وأذكر أني قرأت عن حوار قديم بين عمر التلمساني والغنوشي, وكان الغنوشي يؤكد أهمية الائتلاف الحقيقي بين جماعة الإخوان المسلمين والقوي الوطنية, ولكن التلمساني كان رافضا للفكرة في ذلك الوقت, وتمضي الأحداث ويدخل الإخوان في الائتلاف مع الوفد أيام فؤاد سراج الدين. وظني الشخصي, بعيدا عن الغنوشي, أن الطبيعة الاستحواذية لجماعة الإخوان المسلمين هي التي لا تزال تباعد بينها والقوي الوطنية التي لا تمانع في قيام ائتلاف, شريطة أن يكون متكافئ الأطراف, بعيدا عن الاستحواذ, وقائما علي روابط سياسية مدنية وليست إيديولوجية, أو دينية متطرفة, ما ظل الجميع موافقا علي المادة الثانية من دستور .71
وبالطبع لم يكن حديثنا مع المرزوقي حديثا جهما وسياسيا طوال الوقت, فقد تعرضنا للنقاط الإيجابية في الثورة واستمرار مسارها الإيجابي الواعد. فهناك- أولا- تقدم التعليم التونسي الذي يرجع السر في قوته إلي الأساس المتين الذي وضعه بورقيبة. وهناك- ثانيا- قوة المجتمع المدني التونسي بالقياس إلي ضعف المجتمع المدني المصري وعدم فاعلية منظماته ومؤسساته التي لا تزال هشة غير قوية بما لا يكفي لإحداث تأثير قوي. ويتصل بذلك الوعي المدني القوي والمتمثل علي وجه الخصوص في قدرة المرأة التونسية علي إفشال كل محاولات الحد من حرياتها أو مكتسباتها. وأخيرا, انفتاح تونس علي البحر وتواصلها الدائم مع الثقافة الأوروبية علي النقيض من الوعي المصري العام الذي غزاه إسلام الصحراء وأربكته مغريات النفط التي حملت الأصولية الذي اكتست به بعض الجماعات السلفية التي رأت حضورها في رفضها لكل ما يتصل بصفات الدولة المدنية بحجة الكفر الكاذبة, فضلا عن عدم اعترافها بلوازم مبدأ المواطنة. وكل هذا راجع إلي إغلاق باب الاجتهاد الذي فتح الغنوشي أبوابه علي مصراعيها, يؤازره في ذلك المرزوقي الذي يحتل موقعا فكريا أكثر تقدما.
صحيح أن مشاكل تونس لا تقاس بمشاكل مصر, والفارق الأهم بين الاثنين أن تعداد الأولي حوالي أحد عشر مليونا, وتعداد مصر يقترب من التسعين مليونا. ولكن تبقي أهمية انفتاح عقول النخبة التي تحكم واستنارتها وإيمانها بالدولة المدنية. وأعني بذلك التوجه الفكري الذي يمكن أن يقود إلي الأمام, ويفتح أبواب المستقبل الواعد, أو يحاول أن يعيد عقارب الساعة إلي الوراء, حيث لا يوجد سوي الظلام والتخلف.
lt; استئذن القاريء الكريم في ان أطل عليه بمقالي يوم الاربعاء بدلا من الأثنين كل اسبوع في هذا المكان.