أحمد المهنا

بعيدا عن كرة القدم ، التي تفعل الأعاجيب بالشعوب ايجابا وسلبا، فإن عظمة الشعب المصري لا تحتاج الى معايشة لاكتشافها. انه فاتحة عصر النهضة في عالمنا العربي، كما هو بادئة عصر الثورة. وهو البلد العربي الوحيد الذي يتمتع بقوة ناعمة تغلغلت في مساماتنا، من خلال السينما والمسلسلات التلفزيونية والغناء والأدب.
رغم ذلك فان quot; الشوف مو مثل الحكيquot;. فهذا البلد القديم يفاجئك كلما شفته. تماما مثل كل شيء جميل. والجمال مفاجىء دائما. فأنت تسمع، وquot; تعرفquot; بالتالي، بأن امرأة ما فاتنة. ولكن هذا شيء، وأن تراها ملء العين شيء آخر. بل وشيء آخر تماما!
معظم الخريف الماضي قضيته في القاهرة. وكما تعلمون فان الدنيا هناك يفترض ان تكون quot;مكلوبةquot; على ايقاع الربيع العربي. لكنه فرض خاطىء. وخاطىء حتى في قلب الثورة، وهو quot; ميدان التحريرquot;، حيث التظاهرات التي اسقطت مبارك، ومازالت متواصلة بين مد وجزر. فالميدان، خلال فترة تواجدي في القاهرة، تحول في الأماسي الى متنزه، quot;ونسةquot; أو quot;مولدquot; بتعبيرهم. ففي كل مساء تأتيه أفواج غير مسيسة للاستمتاع، فيها عوائل، فضوليون، بطالة، أمنيون متخفون، عشاق، وبلطجية، الى جانب أصحاب quot; الميدانquot; وهم الثوار بالطبع. وحول الجميع أنشأ باحثون عن الرزق مقاهي ومطاعم وعربات لبيع الفول السوداني وأخرى للبطاطا الحلوة.
وكانت شقتي في quot; الدقيquot; تبعد عن الميدان مسافة 20 دقيقة مشيا على الأقدام. فكنت اسير اليه في ليال كثيرات برفقة صديقي المشاء العظيم quot; أبو يوسفquot;. ولم يحدث ما يعكر علينا جو النزهة. ولكن لمرة وحيدة كان quot; التعكيرquot; قريبا منا. ففي احدى الليالي عدنا من الميدان في منتصف الليل، وفتحت التلفزيون فور وصولي البيت، فاذا بالأخبار تتحدث عن اصابة اكثر من مائة في quot;مناوشةquot; بين الثوار والبلطجية بعد دقائق من مغادرتنا الميدان!
ولعل أهم انطباع تكون لدي عن quot; ربيع مصرquot;، الذي بلغته مع حلول الخريف ، هو ان المجتمع هناك أكبر وأقوى من السياسة. quot; ميدان التحريرquot; قد يكون quot; جبهةquot;، ولكن قريبا منه وبعيدا عنه فإن كل شيء هادىء أو صاخب كما جرت العادة. الأسواق عامرة، الشوارع تعيش الزحمة المعتادة، صالات السينما شغالة، quot;ساقية الصاويquot; عاجة بجمهور الفنون، والناس والسيارات يتنافسان على تسميم الأجواء بألوان الدخان. السياسة هناك والحياة هنا وهناك.
طبعا الثورة جراحة كبرى. وهي تبطح شعوبا على السرير، وأخرى تدخلها الطوارىء، وتضع ثالثة في مهب الريح. لكن ايا من هذا لم تفعله ثورة يناير مع مصر. هناك آثار سلبية مؤكدة وملحوظة بالعين المجردة على السياحة، اذ قل السياح الأجانب والعرب كثيرا، وأخرى على الأمن والتجارة والصناعة، ولكن تيار الحياة ظل أقوى بكل تأكيد من الآثار العارضة.
ولعل ذلك يعود أساسا الى قوة المجتمع المدني والى قوة الدولة. فالثورة لم تسقط الدولة. ان سقوط الدولة يعني الفوضى. ومصر فيها من الفوضى ما يكفيها بوجود الدولة، فكيف اذا سقطت الدولة لا سمح الله!
سقط مبارك وأسرته وحزبه، وبقيت مؤسسات الدولة، الحكومية والمدنية.
السياسة في مصر تعلمت الإنحناء أمام الشعب. في مصر لا الشعب رمل ولا السياسة ريح!