أمير طاهري


لماذا قاموا بذلك؟ هذا هو السؤال الذي يدور على ألسنة الكثيرين في الشرق الأوسط بشأن الفيتو الروسي في مجلس الأمن بشأن روسيا.

الفيتو، ليس مهما في حد ذاته، ولا يتوقع أن تتوقف الانتفاضة السورية نتيجة لذلك. وحتى إن تمكن بشار الأسد من الاعتماد عليه لبعض الوقت، فنظامه المعتل لن يكون ذا فائدة كبيرة بالنسبة لروسيا أو أي شخص آخر. ومن ثم، لا ينبغي علينا أن نفسر التحرك الروسي كتصويت على الثقة في الأسد. فربما كان لهذه الخطوة أسباب أخرى.

من ناحية تكتيكية سيمكن الفيتو الروسي فلاديمير بوتين رئيس الوزراء، الساعي إلى الترشح لانتخابات الرئاسة، من حشد قاعدة الدعم عشية الانتخابات التي تتزايد صعوبتها على نحو كبير. وحصر بوتين نفسه بين شقي رحى أحد طرفيها الحزب الشيوعي الذي عاد إلى الساحة، ووالثاني هو فلاديمير جيرنوفسكي، الشوفيني الذي يمثل طرفها الثاني.

الطرفان يكرهان بعضهما البعض لكنهما متحدان في معاداتهما للغرب. وهما ينظران إلى الثورة السورية، التي هي ربيع عربي حقيقي، على أنها امتداد لتأثير النفوذ الغربي. وباتخاذه موقفا معاديا للغرب يحاول بوتين تقمص شخصية محببة لدى الطرفين، الشيوعيين والشوفينيين.

ويأمل في أن يثبط الحركة الروسية المطالبة بالديمقراطية التي تعمل جاهدة على إضعافه. ورسالته هي laquo;لن يكون هناك ربيع عربي في روسياraquo;.

كانت روسيا منذ القرن التاسع عشر منقسمة بين مؤيدين للفكر الغربي والسلافوفيليين، وكان بطرس الأكبر من أوائل المؤيدين للغرب كحال عدد كبير من الكتاب مثل هيرزين وتورجينيف. أما القيصر ألكسندر الثاني فكان سلافوفيليا متحمسا ومعه كتاب مثل خومياكوف وسامارين، ومن العصر الحديث، سولزنيتسن.

السلافوفيلية، بعيدا عن المصطلحات الفلسفية الزائفة، هي مزيج من القومية والحكم الشمولي وعبادة الرجل الملهم. وتبشر هذه الحركة المناهضة للديمقراطية إلى حد بعيد بالأمل في إعادة توحيد جميع السلاف تحت العلم الروسي والخوف من وقوع روسيا تحت السيطرة الأجنبية. والحقيقة أن التتار والمسلمين بشكل عام هم من عززوا هذا الشعور بالخوف، عكس الحال في السنوات المائة الماضية، التي برز فيها الغرب على أنه البعبع.

لجوء بوتين إذن إلى هذا المسار ليس بالمفاجئ، فهو نتاج جهاز الاستخبارات laquo;كي جي بيraquo;، وهو مبرمج على النظر إلى السياسات على أنها مجموعة من المؤامرات التي يحاول الغرب من خلالها عزل وإضعاف وتفكيك روسيا. والخشية من أن يؤول مصير الاتحاد الروسي إلى ما آلت إليه الإمبراطورية السوفياتية القديمة يشبه إلى حد بعيد الآمال بإعادة إحياء الإمبراطورية من خلال ممارسة البلطجة والرشوة كما حدث في جورجيا عام 2008، في الغزو مباشرة.

وعلى الرغم من تمثيل المسلمين نسبة 20 في المائة من عدد السكان، فإنهم بفضل ارتفاع نسبة المواليد يمثلون أسرع الطوائف الدينية نموا.

وكان بوتين دائم الخوف من ثورات المسلمين. ولعل ذلك هو السبب في رفضه الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين ألكسندر ليبيد مع الرئيس الشيشاني أصلان مسخادوف وشن حربا شاملة ضد الشيشانيين. وما فعله الأسد في حمص هو نفس ما فعله بوتين في غروزني، العاصمة الشيشانية على مدى عشر سنوات.

بكثير من الخوف والتوجس ينظر عميل الـlaquo;كي جي بيraquo; إلى الولايات المتحدة وهي تقيم قاعدة عسكرية ومواقع للصواريخ في شرق ووسط أوروبا، ليدرك مدى حقيقة استراتيجية جون فوستر دالاس إبان الحرب الباردة المنتهجة لأسلوب laquo;عزل المعتديraquo;.

قبل ثلاثة عقود، كان للبحرية السوفياتية قواعد وتمتلك حق الرسو في ست دول مطلة على البحر الأبيض المتوسط في الوقت الذي لم تكن الولايات المتحدة تتمتع فيه بهذه الحقوق سوى في أربع دول فقط.

ومع التغييرات الأخيرة في ليبيا لم يعد أمام البحرية الروسية سوى ميناء طرطوس في سوريا. وفي صراع رئيسي، يمكن أن تتحول مواقعها في بحر آزوف وشبه جزيرة كريميان إلى مصيدة فئران. أما البحر الأبيض المتوسط فقد تحول إلى بحيرة للناتو.

كما فقد الروس جزءا كبيرا من أسواق السلاح، ففي الستينات كان الاتحاد السوفياتي أضخم مصدر للسلاح في العالم، حيث كانت الأنظمة المتطرفة في العالم العربي بين أفضل عملائهم. اليوم، باستثناء إيران وسوريا، فإن الشرق الأوسط الكبير أبوابه مغلقة إزاء الأسلحة الروسية.

وسواء شئنا ذلك أم أبينا ستظل روسيا موجودة في الشرق الأوسط الكبير. لكن انفصالها عن المسار الرئيسي للتطورات التاريخية في المنطقة ليس في مصلحة أحد. والفيتو الروسي بشأن سوريا كان نتاج رد فعل لا إرادي، لا من تحليل منطقي.

والحقيقة أن روسيا لم تكن لديها سياسة متماسكة تجاه منطقة حساسة على أعتابها. الرفض سهل، لكنه ليس سهلا بالنسبة للسياسة.

وأذكر أن يفجيني بريماكوف وهو يخبرني في عشاء في مطعم إيطالي في باريس بعد سنوات من ذلك أنه laquo;سواء كان صحيحا أم خاطئا، فقد واكبت روسيا سياق التاريخ في الشرق الأوسط في الستيناتraquo;.

بيد أن بوتين، وضع سياسة الشرق الأوسط الروسية على المسار الخاطئ، ضد سياق التاريخ. وحتى في ظل حكمه، لم تعد روسيا عدو الغرب ولا تمثل تهديدا وجوديا. بيد أنه نتيجة لجغرافيتها وتاريخها وطموحاتها، تأمل روسيا في أن تكون منافسا، ومتحديا أو حتى خصما للقوى الغربية التي تقودها الولايات المتحدة، وهي قادرة على ذلك إلى حد ما.

لا يمكن لأحد أن ينكر مثل هذا الدور، شريطة أن يبدي الشعب الروسي رغبة في لعب هذا الدور. لكن المشكلة مع بوتين أنه لا يعلم الفارق بين laquo;العدوraquo; وlaquo;المنافسraquo; ولا بين laquo;الصراعraquo; وlaquo;المنافسةraquo;.

من ناحية أخرى أثار الفيتو الروسي الأسبوع الماضي الرأي العام العربي ضد موسكو. غير أن التحدي الحقيقي يتمثل في كيفية استيعاب روسيا بجعلها تدرك وتقيم ما وصفه بريماكوف بـlaquo;مواكبة مسار التاريخraquo; في المنطقة.

وعلى الرغم من تجاوزاتها الاستبدادية، فإن نظام بوتين ليس في نفس فئة الاستبداد الطائفي للقرون الوسطى الذي يمارسه الأسد.

كان بوتين خاطئا في دعم ميلوسيفيتش وكاراديتش والقذافي إلى نهايتهم المريرة وسيكون مخطئا أيضا في أن يلقي برهانه على خاسر آخر هو الأسد.