سمير عطا الله
منذ عام 1948 والجيوش العربية تأخذ من الشعوب. كانت تتذرع بفلسطين من قبيل حفظ ماء الوجه، ثم لم تعد تتذرع بشيء، صارت تأخذ كأنما كل شيء حق لها. هُزمت وظلت تأخذ دون أن تعطي شيئا. أخذت السلطة وأخذت الأموال وأخذت الحريات وأخذت الدولة المدنية وأخذت مستويات المعيشة، ولم يخطر لها أن تبقي للناس شيئا.
في زمنها احتلت باقي الأراضي وباقي الكرامات وباقي المستقبل وباقي الأرغفة وباقي الجبين، وأرغمت الفرق الموسيقية أن تغني لها على أنها صلاح الدين. نقلتنا الجيوش من القضية الفلسطينية إلى القضية العربية، ومن أرض محتلة إلى أراضٍ محتلة، ومن شعوب حالمة إلى شعوب مغمسة باليأس، ومن مصانع تعطي الفرص إلى مصانع مهجورة، ومن معاهد تصنع عصور النهضة إلى معسكرات تصنع ثقافة الخضوع والخنوع والاكتفاء بنعمة البقاء، على أنها منة قابلة للتمديد بشروط محددة وبنود واضحة.
حاربت الجيوش العربية ضعفاء العرب، احتلت ضعفاء الجوار، أخافت أهلها وأبناءها، استخدمت الأسلحة الكيماوية على عجزتها وأطفالها وتركتهم يموتون كالجراثيم المحاصرة، هُزمت وتركتنا نغني للنصر، خسرت وأرغمتنا على التصفيق، وهنت واستقوت على الأرض والوطن والناس، نسيت أن العقد يعقد مع الشعب فعقدته مع نفسها.. عقد من فريق واحد لا ثاني له.. عقد يجدد من تلقاء ذاته ويمدد لنفسه ويبقى على الدوام عقدا بين مدني يصفق وضابط بعدة بزات، مدنية ولها ألوان، وعسكرية ولها نياشين، واحتفالية ولها عصا.
عندما قررت الناس أخيرا أن تطلب من العسكر استعادة حقها المدني وحقوقها الطبيعية وحصتها في الأرض والبناء والعمل، تصرفت الجيوش وكأن موعد حربها الحقيقية الأولى قد حان. كانت مهادنة على الجبهات كلها، راضية على الجهات كلها، فلما رأت الناس يتحركون اشتعلت جبهتها الكبرى.
فجأة أعلنت الجيوش العربية ما كان يعرفه الناس من أيام الناس: أن شغفها الوحيد هو السلطة وإبعاد المدنيين وتنويم القوانين. وفجأة رأى المدني العربي ألا حماية له أمام شقيقه العسكري إذا غضب.
وبقي للأمة الحزينة مبدأ النسبة الذي لا مفر منه: الجيش الأفضل هو الأقل قتلا للعزل. والجيش الأنبل هو الأقل ولاء للاستبداد والأكثر رحمة بضحاياه وعبيده؛ لذلك لا ينسى للجيش المصري أنه تربع أمام دباباته في ميدان التحرير. ولا ينسى للجيش التونسي أنه قرع باب زين العابدين بن علي وقال له: انتهى زمن حماية رؤساء الأزل. لقد عدنا إلى قسمنا الأول: حماية الأرض وأصحابها.
التعليقات