مالك التريكي


أثارت تصريحات وزير الداخلية الفرنسي كلود غيان قبل أيام عن 'عدم التساوي بين الحضارات' جدلا لم يقتصر الخوض فيه على ساسة الحزب الاشتراكي وممثلي منظمات حقوق الإنسان ومناهضة العنصرية، بل إنه شمل مثقفين من طراز المفكر الموسوعي إدغار موران، والباحث السياسي المختص في شؤون العالم الإسلامي جيل كيبيل، والكاتب والجامعي التونسي عبد الوهاب المؤدب والفيلسوف لوك فري. وليست هذه هي المرة الأولى التي يعلن فيها سياسي غربي أن الحضارات الأخرى هي أدنى مرتبة من الحضارة الغربية. بل وقع ذلك مرات كثيرة لعل أشهرها إعلان رئيس الوزراء الإيطالي السابق سيلفيو برلسكوني، بعد ثلاثة أسابيع من هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2011، أن 'الحضارة الغربية أعلى من الحضارة الإسلامية'.
ما قاله غيان هو التالي: 'هنالك سلوكيات لا مكان لها في بلادنا، ليس لأنها أجنبية، بل لأننا لا نحسبها منسجمة مع تصورنا عن العالم، وبالخصوص مع تصورنا عن كرامة المرأة والرجل. ذلك أننا نرى، على عكس ما تقول به إيديولوجيا النسبية [الثقافية] ذات المنشأ اليساري، أن الحضارات غير متكافئة. فالحضارات التي تدافع عن الإنسانية تبدو لنا أكثر تقدما من تلك التي تتنكر لها. والحضارات التي تدافع عن الحرية، والمساواة والأخوة هي في نظرنا أعلى من تلك التي تقبل الاستبداد، والانتقاص من المرأة والكراهية الاجتماعية أو العرقية. وأيا يكن الأمر فإن علينا أن نحمي حضارتنا'. ونظرا إلى أن السلوكيات المعنية هنا تتعلق أساسا بوضع المرأة، فقد فهم فورا أن الوزير إنما يقصد العرب والمسلمين.
وإذا كان الجميع تقريبا قد أشار إلى 'مصادفة' التواقت بين تصريحات غيان هذه وبين اقتراب الحملة الانتخابية الفرنسية، فإن الأهم الذي لم يتفطن إليه إلا القلائل هو مفارقة التزامن بين هذه التصريحات وبين اندلاع الثورات الشعبية العربية! وقد عبر عبد الوهاب المؤدب عن هذه المفارقة المذهلة بالقول إن تصريحات غيان هذه تطرد الجاليات العربية والمسلمة خارج أفق فكر التنوير 'رغم أن الشعوب التي تنتمي إليها هذه الجاليات قد أثبتت وأكدت، في عقر دارها، إنسانية الحق الطبيعي وكونيته، حيث أنها هي اليوم أقدر الشعوب على الموت في سبيل الحرية والمساواة والكرامة'. وبما أنه سبق للكاتب أن بين أن التطرف الأصولي هو 'مرض الإسلام' (حسب عنوان كتاب أصدره عام 2002) بمثلما كان التعصب مرض الكاثوليكية والنازية مرض ألمانيا، فقد أكد لجريدة لوموند أن على كل ثقافة أن تتطهر من شياطينها القديمة لأنه ما من ثقافة إلا وهي متأرجحة بين الحضارة والهمجية. 'فإذا كانت همجية الإسلام [أي الهمجية الناجمة عن فهم خاطىء للإسلام] هي التطرف الأصولي، فإنه يبقى أن همجية الثقافة التي ينتمي إليها السيد غيان إنما هي العنصرية (...) وعلى هذا فإن تصريحات السيد غيان لا تتوافق مع ما أتت به ثقافته تنويرا وتمدينا، بل إنها تؤكد ما هو كامن في صلبها من نزوع إلى الهمجية'.
كل من تأكد له أن الحضارات ليست ماهيات ثابتة وإنما هي جدليات حية لا بد أن يجد عبد الوهاب المؤدب محقا في كل ما قال. لكن الطريف أن الكاتب يتوقع الكثير، على الصعيد المعرفي، من رجل لا يعدو أن يكون سياسيا عاديا، عندما يتساءل، متعجبا، أنّى لأي امرىء أن يقول اليوم بلا تساوي الثقافات بعد كل ما راكمته الإنسانية من منجزات الأنثروبولوجيا والبيولوجيا واللسانيات؟ أو عندما ينصح رجل اليمين المسكين بأن يقرأ 'مجنون إلسا' ليرى كيف اجتاز 'ابن بلاده' الشاعر لوي أراغون 'غابة الإسلام'، حيث تحتدم المواجهة الصاخبة بين الهمجية والحضارة، وبين الجمود والتقدم، في صلب هذه الثقافة الحية.
أما الفيلسوف لوك فري، الذي انبرى للدفاع عن غيان، فقد خرج عن أصول النزاهة الفكرية بعض الشيء عندما قال إنه لا معنى للتفريق بين الحضارات والأنظمة السياسية. إذ إن ما يعنيه هذا القول هو أن من الحضارات ما لا يستطيع أن ينتج إلا الاستبداد! إذا كان الأمر كذلك حقا فما بال أوروبا (التي يمتدحها فري لأنها 'أوتيت من العبقرية ما مكنها من تطوير حضارة علمانية - حضارة حرية ورفاه ليس لها نظير') قد أنتجت أيضا قدرا لا بأس به من الفاشية، والنازية واليمينية المتطرفة، على خلفية دائمة من العنصرية التي لم يكن الاستغلال الاستعماري إلا أحد تعيناتها؟