محمد جابر الأنصاري

التغيير السياسي المهم الذي شهدته مصر هو إسقاط حكم حسني مبارك الذي هو امتداد لعصر السادات، منذ أن وقّع السادات معاهدة ldquo;كامب ديفيدrdquo; مع ldquo;إسرائيلrdquo; وفتح للقطاع الخاص في الاقتصاد (ولكن على العرب أن يتذكروا أن مبارك عمل على إعادة العلاقات المصرية العربية المنقطعة بسبب نهج السادات، كما أنه لم يقم بزيارة ldquo;إسرائيلrdquo; طوال عهده) وقبل ذلك ماذا كان؟ أليس هو التوجه الناصري القائم على:

1- مواجهة ldquo;إسرائيلrdquo; عسكرياً، مطلب جماهيري .

2- الدعوة الاشتراكية من أجل ldquo;العدالة الاجتماعيةrdquo; .

3- دعوة القومية العربية وقيادة مصر للعرب .

4- التمسك بالدولة المدنية التي لا تعني ldquo;الإخوان المسلمينrdquo; كثيراً مع أنهم يشكلون إحدى القوى السياسية المناهضة لها وللناصرية .

ولكن ldquo;الإخوان المسلمينrdquo; الذين حاربهم عبد الناصر، هم الذين فازوا في الانتخابات البرلمانية، فكيف يستقيم الحديث عن عودة مصر للناصرية؟، آه: عبد الناصر وrdquo;الإخوانrdquo; . .

إنها قصة طويلة محزنة ومعقدة عنوانها المختصر: الصراع على السلطة .

ثمة روايات متواترة في سيرة عبد الناصر قبل الثورة أنه أقسم على المصحف أمام حسن البنا ldquo;مرشدrdquo; الإخوان على الإخلاص للدعوة .

ومن زملاء عبدالناصر في مجلس قيادة الثورة عدد من الضباط ذوي الاتجاه الإسلامي أبرزهم محي الدين حسين الذي تولى وزارة التربية والتعليم المصرية لسنوات طويلة، وفي تقديرنا أن عبدالناصر أراد ldquo;طمأنةrdquo; الدول العربية الأخرى التي كانت تتبع المنهج التربوي المصري بتولي ldquo;إسلاميrdquo; لوزارة التربية، وكان يواجه هؤلاء في ذلك المجلس، ضباط لهم اتجاهات مغايرة، كخالد محي الدين ذي الاتجاه اليساري، وكان عبدالناصر يمارس ldquo;الليبراليةrdquo; بينهم داخل المجلس، لا خارجه في حكم مصر! وأزمة ldquo;مارس 1954مrdquo; عندما انتفضت القوى الليبرالية المصرية ضد الحكم الناصري أشهر من تُعرّف .

وكانت الثورة قد أعدمت بعد أيام من قيامها الخميسي والبقري وهما اثنان من قادة الحركة الشيوعية بمصر، ما جعل الحركة اليسارية بعامة تعتبر انقلاب الجيش حركة فاشية يمينية .

وحرص عبدالناصر على زيارة قبر حسن البنا، عندما تمر ذكرى اغتياله، تمسكاً منه أمام الشعب المصري أنه مخلص لذكرى ldquo;الإمام الشهيدrdquo; الذي اغتالته مخابرات العهد السابق الذي ثار ضده .

وبعد أن اصطدم عبدالناصر بالإخوان بقي معه، أو لم يعلن العداء له عدد من الإسلاميين، أبرزهم أحمد حسن الباقوري وزير الأوقاف في عهد الثورة والداعية محمد الغزالي والدكتور أحمد كمال أبو المجد وزير الإعلام المصري في حرب أكتوبر 1973م .

وعندما حلّت الثورة الأحزاب المصرية، أبقت على جماعة ldquo;الإخوان المسلمينrdquo; عرفاناً منها للجماعة لمواقفها الوطنية .

البعض يقول إن هذا هو ldquo;الخطأ المصيري القاتلrdquo; الذي وقعت فيه ldquo;الجماعةrdquo;، فكيف تقبل البقاء في ظل عهد يحرّم الأحزاب الأخرى؟

وقد جاء عليهم الدور، فعندما اختار عبدالناصر طريق ldquo;التفاوضrdquo; مع الإنجليز لتحقيق جلائهم عن قناة السويس . دعا ldquo;الإخوانrdquo; إلى ldquo;الجهادrdquo; لإجلاء قواتهم عن القناة . . وتم ldquo;تخوينrdquo; كل من ldquo;يتفاوضrdquo; معهم . وكان ldquo;الصراع على السلطةrdquo; واضحاً في هذا الأمر، والأمور التي تلت . فقد جاء إطلاق الرصاص على عبدالناصر في الإسكندرية، واتهم في العملية، محمود عبداللطيف، أحد الأعضاء في جماعة الإخوان التي اعتبرت ldquo;التهمةrdquo; تهمة ملفقة من الأجهزة الناصرية واعتبرتها تلك ldquo;الأجهزةrdquo; مؤامرة مدبرة من التنظيم السري للإخوان ومن القيادات الإخوانية حينئذ، وتم تقديم ستة من الإخوان العاديين والقياديين إلى المشنقة . وهاج العالم العربي الذي كان إلى حينه يتعاطف مع الإخوان، وكان بين المقدّمين للإعدام القيادي الإخواني القانوني: عبدالقادر عودة الذي قال قبل إعدامه ldquo;إن دمي سيتحوّل لعنة على رجال الثورةrdquo; .

وتذكّر الناس عبارة عودة تلك عندما حلت هزيمة 1967م التي عُرفت ب ldquo;النكسةrdquo;! وزادت منها واقعة إعدام الداعية الإخواني سيد قطب في أغسطس/آب 1966م، وكان قبل ذلك قد خرج من السجن وأصدر كتابه الشهير ldquo;معالم في الطريقrdquo; الذي انتشر بين الناس في مصر والعالم الإسلامي انتشار النار في الهشيم، وكان السبب المضمر في إعدامه، حسبما أراده اليساريون المتحالفون مع عبدالناصر، بزعامة علي صبري حسبما يقال .

وسرت شائعة في مدينتي المحرق بالبحرين أن الإخوان -على قلتهم- في تلك المدينة ذات النضال ldquo;العروبيrdquo; التاريخي التي كانت من أعتى القلاع الناصرية في الخليج العربي، قد تجمّعوا تحت جنح الظلام قرب ldquo;مقبرة المدينةrdquo; وذبحوا تيساً ldquo;احتفالاًrdquo; بهزيمة عبدالناصر والثورة! . . ونفى الإخوان تلك الشائعة .

المهم أن عبدالناصر بعد باندونغ وصفقة الأسلحة التشيكية، جاءته حرب السويس 1956م هدية من التاريخ، فقد ldquo;خرج على النصrdquo; بتأميمه القنال، وكان لا بد أن ldquo;يزولrdquo; لكنه استطاع أن يصمد ضد ثلاث قوى كانت تكرهها الجماهير العربية: وهي ldquo;إسرائيلrdquo; وفرنسا وبريطانيا، ووقف العرب إلى جانب عبدالناصر، وذلك ما قاده إلى حرب 1967م، التي فرضها الشارع العربي عليه الذي تجرّع إثرها مرارة الهزيمة، رغم إعلانه عام 1965م أنه لا يملك ldquo;خطةrdquo; لتحرير فلسطين .

ويلاحظ بمصر هذه الأيام ldquo;مؤشراتrdquo; عودة وتعاطف مع الناصرية . . فصحيفة ldquo;الأهرامrdquo; وهي كبرى الصحف المصرية التي أحرص على قراءتها يومياً في البحرين، تظهر تعاطفاً واضحاً مع عبدالناصر، سواء في نشرها المقابلات مع الكاتب ldquo;الناصريrdquo; محمد حسنين هيكل، أو مع الدكتورة هدى عبدالناصر، أو بقلم محررين آخرين . وقد فاز ldquo;الناصريونrdquo; في انتخابات نقابة الصحافيين المصريين، ويرى المراسل والكاتب الأمريكي Patrid Tyler أن رجال النخبة المصرية، بمن فيهم رجال الجيش وخبراء الأمن القومي: ldquo;قد نشأوا عن الطوق في ظل عبدالناصر الذي تميز عهده وحكمه بالدعوة إلى القومية العربية غير المساومةrdquo; .

وليس مهماً رفع شعارات الناصرية، ولكن أي رئيس مصري سيتم انتخابه، إضافة إلى الأغلبية البرلمانية ldquo;الإخوانيةrdquo;، لا بد أن يواجها ldquo;إسرائيلrdquo; بطريقة ldquo;مختلفةrdquo; عن السادات بعد ldquo;كامب ديفيدrdquo; وعن حسني مبارك، وقد تم حتى الآن تفجير الخط الناقل للغاز المصري إلى ldquo;إسرائيلrdquo; 12 مرة! . . والحبل على الغارب . ليس بالضرورة إلغاء ldquo;اتفاقية كامب ديفيدrdquo; من البداية، وإنما العمل على تعديلها لمصلحة مصر والعرب . هذه مسألة من ldquo;بقاياrdquo; الناصرية، والمسألة الثانية هي مسألة ldquo;العدالة الاجتماعيةrdquo; التي لا يمكن القفز عليها في بلد فقير كمصر .

ولكن المعركة الحقيقية أيديولوجياً- ستكون في التمسك بالدولة المدنية . أو تجاوزها، وتلك هي ldquo;المسألةrdquo;!