احمد المهنا


ما سمّي في الأدب السياسي الدولي بـquot;الاستثناء العربيquot;، هو الأنظمة التسلطية والشمولية، التي كانت سائدة في المنطقة، بخلاف أو عكس تيار الاتجاه العالمي نحو الديمقراطية خصوصا مع فورته بعد سقوط جدار برلين.

وكان العمل الأساسي للاستثناء العربي هو تصفير السياسة. اي احتكار السلطة من قبل مجموعة حاكمة، في حالة الأنظمة التسلطية، مثلما كان الأمر في مصر وتونس واليمن، أو احتكار السياسة بقضها وقضيضها في الأنظمة الشمولية من قبل حاكم فرد، كما مع القذافي، او الأسد. ومن ثم تجميد الحركة السياسية في البلدان المحكومة بهذا النوع من الأنظمة، وتركيز قرارات السيادة والمصير بيد الحكام.
السياسة quot;عملية اجتماعيةquot; مثل الصناعة والزراعة والتجارة. واحتكار هذه الفاعلية بيد سلطة مستبدة او دكتاتور، يعني تجميدها، وإيقاف أي تنمية فيها، وتحويلها من عمل جماعي إلى عمل فردي، وبالتالي quot;تصفير السياسةquot;.
وقد بلغ ذلك التصفير أعلى مراحله مع اتجاه رؤساء الجمهوريات العربية إلى توريث أبنائهم. فهؤلاء تملكهم الشعور بأنهم أنجزوا quot;الاستثناءquot;، وأفرغوا بلدانهم من السياسة، وأصبحت ملعبا عائليا لهم وحدهم.
وهذا هو ما أطاح به quot;الربيع العربيquot;، معيدا بذلك الحياة إلى quot;العملية السياسيةquot;.
ومن الصعب تماما تخيل سلوك هذه quot;العملية السياسيةquot; دروبا سهلة، آمنة، وعملية وهي تبدأ من الصفر، أو ما يقاربه. إن quot;سجن السياسةquot; ليس أكاديمية لتخريج الأحزاب الحية، او الجمهور الواعي. الممارسة والتجربة هي مصنع الخبرة والمعرفة.
وما من مصنع ينتج أفضل البضائع في بدايته، خصوصا اذا كان عمله يتعلق بالأفكار والمشاعر والأهواء. اذ يمكن استيراد مصنع للسيارات من أفضل البلدان المنتجة له، وتركيبه في بلد نام، ومن ثم تشغيله على أحسن ما يرام. ان الناس تقبل التعلم بيسر من غيرها في مجال الماديات. ولكن من العسير عليها التعلم من الغير في مجال الروحانيات. والسياسة من هذا المجال لأنها نتاج قطاع الأفكار والمعتقدات والتقاليد.
الشعوب تتعلم السياسة من نفسها، من ممارستها، ومن تجارب الخطأ والصواب التي تخوضها. ولا يكاد هناك شعب يتعلم من آخر في مجال السياسة. ان الكل يقبل الطبابة من الكل. ولكن الكل يتوجس من الكل في السياسة.
ويصطدم عبور الهوة من الاستبداد إلى الحرية بالممانعة، بسبب ترسّخ الهوّة المعرفية بين الثقافتين، ثقافة الاستبداد، وثقافة الحرية. فهنا تكمن صلابة ممانعة ميتافيزيقية، شبيهة بالممانعة الطبيعية لإحياء سمكة على البر.
على أن هذه مقارنة مشابهة لا مماثلة، هدفها تصوير مشقة الانتقال من الاستبداد إلى الحرية، وصعوبة هضمه واستيعابه، وليس استحالته كما في أمثلة الممانعة الطبيعية. فلم يولد شعب من الشعوب حرا وديمقراطيا، الجميع ولد في الاستبداد، ولكن البعض سبق الآخر إلى الحرية.
وقبل نصف قرن كانت quot;الديمقراطيةquot; منبوذة ومشبوهة لدى الأغلبية في العالم العربي والإسلامي. لا فرق في ذلك بين علماني وإسلامي. وها هي اليوم تصبح مقبولة وداجنة لدى الجميع، ولو في حدود التعليم العام و الاقتراع العام.
وهاتان قيمتان من قيم الليبرالية. وبقيت لها سبع قيم أخرى، أغلبيتها الساحقة تحتاج الى تبيئة، وهي حرية التفكير، حرية التعبير، التسامح، الخلاف، قدرة العقل، قوة الأفكار، وقداسة الفرد. إنها بالانتظار!