صالح عبد الرحمن المانع
أصدر المجلس الوزاري لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية توجيهاته بمواصلة العمل للجنة الاستشارية المـُكلفة بدراسة مبادرة خادم الحرمين الشريفين بتشكيل اتحاد خليجي يطوّر التعاون والعمل الخليجي المشترك ويعلي من شأنه ويسير به خطوات أخرى لكي يصل به إلى مراحل جديدة من التعاون والتكامل. وبموازاة ذلك، اجتمع نفر من مثقفي دول المجلس الست ليتدارسوا هذا المقترح ويطوّروا من جانبهم آراء وأفكاراً موازية من شأنها أن تساهم في رسم خريطة طريق جديدة تعزز من المسيرة المباركة لدول المجلس تحقيقاً لتطلعات شعوبها. وكانت هناك رؤى مشتركة وتوافق كبير في الآراء بين المشاركين في الندوة، وكان هذا مؤشراً إيجابيّاً وسبباً كافيّاً للتفاؤل بحجم انخراط وتفاعل النخب الثقافية في بلداننا مع تطلعات وآفاق العمل الخليجي المشترك.
ولا شكّ أنّ مجلس التعاون، منذ إنشائه قبل ثلاثين عاماً، قد حققّ الكثير من الإنجازات في مجالات التعاون والتنسيق بين الدول الأعضاء، وتبنى أيضاً كثيراً من السياسات والتشريعات المتوازية، التي خلقت سوقاً مشتركة واتحاداً جمركيّاً واحداً بين ست دول متجاورة ومتجانسة إلى حدٍ كبير، هذا طبعاً على رغم وجود بعض العقبات العادية التي من الممكن تذليلها والتنسيق حولها بين المسؤولين والفنيين في الدول الست، على أن وجود مثل هذه العقبات عادي وطبيعي، ويظهر في أي عمل جماعي مشترك.
وقد جاءت مبادرة خادم الحرمين الشريفين الأخيرة بشأن الاتحاد الخليجي لتعطي بُعداً جديداً ودفعة مهمة في الانتقال من مرحلة أولى اهتمّت ببناء السياسات المشتركة إلى مرحلة جديدة تبنى فيها هياكل ومؤسسات سياسية واقتصادية قادرة على ضمان رفاهية مواطني دول المجلس الست، والذود عن حماه، والدفاع عن أرضه وسمائه، بصفة جماعية، في وقتٍ تكاثرت فيه التحديات وتعمقت التهديدات الإقليمية، وتراجع دور الدول الكبرى وتواجدها في المنطقة، وانشغالها بإشكالاتها وأوضاعها الداخلية الخاصة التي قد لا تسمح لها بالتصدي بقوة للتهديدات الإقليمية، مثلما كان عليه الحال في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي.
ولاشكّ أنّ هذه المبادرة جاءت في وقتها، وهي بالفعل بحاجةٍ إلى إعلام قوي يقنع بعض المترددين بأهمية المبادرة والآفاق التي تفتحها وأصالتها وقيمتها. وقد أجمع المثقفون الخليجيون في ندوتهم المذكورة على ضرورة دعم مبادرة خادم الحرمين الشريفين، ورأوا أنها بحاجة إلى تصوّر كامل يعلن في البداية اسما مميزاً للاتحاد الخليجي، ونيّة قوية لإنشاء وتبني هذا الكيان الجديد، ليصبح ذلك بمثابة رسالة رمزية قوية لمواطني الخليج وأيضاً للقوى الإقليمية والدولية، مؤداها أنّ أبناء الخليج عازمون على مواصلة واستكمال الجهد الذي بناه الآباء، ولديهم الإرادة والرغبة والتصميم على مواصلة مسيرة التكامل والنماء في هذه المنطقة الحيوية من العالم العربي والإسلامي.
ومن ناحيةٍ ثانية، فإن مثل هذا الإعلان ينطوي كذلك على رؤيةٍ مستقبلية تبني مراحل التكامل بشكلٍ متئد، وبأسلوب عقلاني علمي رصين، لا يحرق المراحل، بل يتطور من مرحلة إلى أخرى بالطريقة المناسبة، ودون تسرع أو استعجال، فالمرحلة الأولى، التي قد تستمر من ثلاث إلى خمس سنوات، يمكن أن تشمل بناء نظام دفاعي وأمني موحّد، وكذلك تبني سياسة خارجية موحّدة. وفي المرحلة الثانية، يمكن فيها، على وجه التصور، تعميق التكامل الاقتصادي والنقدي بين دول الخليج، وكذلك تطوير الهيئة الاستشارية الحالية لتصبح بمثابة برلمان خليجي مُنتخب. وإضافة إلى ذلك، يمكن تطوير عمل الأمانة العامة أيضاً لتصبح مفوضية سياسية واقتصادية، ويصبح لها دخلها وميزانيتها المستقلة من ريع العائدات الجمركية للدول الأعضاء، على غرار التجربة الأوروبية الناجحة في هذا المجال.
ويمكن أن تتضمن هذه الرؤية أيضاً مسارين متوازيين أحدهما يتجسد في الاتحاد الخليجي قيد البناء، فيما تجري العربة الأخرى لتسير في نفس الخط العتيد الممثل لمجلس التعاون. بمعنى أن يسمح التنظيم الجديد للدول الراغبة في العضوية أن تنضوي تحت لواء الاتحاد الجديد، أما الدول الأخرى التي تريد التريث في مسارها فيمكن لها مواصلة التنسيق والتعاون في أطر مجلس التعاون الحالي بحيث يضمن ذلك تواصل التعاون والتنسيق بين دول الخليج العربية كافة، وبأنجح وسيلة ممكنة.
وهناك أيضاً تفصيلات أخرى يمكن النظر فيها والأخذ بها، استناداً إلى تجارب مماثلة في تجمعات إقليمية ناجحة أخرى. ويمكن في هذه المرحلة كذلك تحقيق تنسيق أكثر على مستوى التمثيل الدبلوماسي في الدول .... الثالثة، وغير ذلك من الإجراءات التي توفر الأموال وتحقق المزيد من النفع والتوفير للدول الأعضاء في الاتحاد.
والمهم هنا هو وجود الإرادة السياسية لدى الدول الأعضاء وأن يشعر الجميع بأن السيادة المجمّعة تحت الاتحاد الجديد هي أعظم نفعاً وأكثر قوة ومنعة من السيادة الأحادية، والسعي نحو تشكل وعي شعبي داعم ومتحمس لفكرة الاتحاد، وفي الوقت نفسه رفع مستوى الحريات والواجبات المـُلقاة على كاهل المواطنين، حتى يقتنع الجميع بأهمية التعاون والتآزر ويشعروا بأنهم جزءٌ من كيانٍ عظيمٍ قيد البناء، وكلما شعر المواطن العادي بالآثار الإيجابية لهذا الاتحاد الخليجي كلما كان أكثر حماساً ودعماً لإنشائه في النهاية.
التعليقات