جميل مطر

مثلما فعلت الثورة في مصر، تكشف الثورة في سوريا لنا خبايا عديدة . كشفت الثورة في مصر عن أمور في حياتنا وأوضاعنا وموازين القوى الداخلية لم نكن نعرفها، أو كنا نعرفها ولكن بالغنا في أهميتها أو قللنا من شأنها . أما في سوريا فقد كشفت الثورة بشكل واضح عن أمور في العلاقات العربية - العربية كانت تستعصي على الحسم فجاءت الثورة لتحسمها، وأمور في العلاقات العربية- الإقليمية كانت غامضة فانجلت، وأمور في العلاقات الدولية كانت محل اجتهاد وتنظير فصارت أقرب كثيراً إلى الواقع .

المزعج في الحالتين أن الثمن الذي دفعه الشعبان السوري والمصري ليكتشفا أموراً كانت غامضة أو خبايا كانت غائبة كان ثمناً باهظاً . يزعجني رغم اقتناعي المتزايد بمرور الوقت بأنه ما كان يمكن أن نكتشف ما اكتشفناه خلال الشهور التي مرت علينا خلال الثورة من دون المعاناة والتضحيات والخسائر التي تحملناها، ومازال أمامنا الكثير منها . ما كان يمكن من دون الثورة أن نعرف بالدقة الواجبة الحجم الحقيقي للتيارات الدينية في المجتمع المصري، وبعد أن عرفنا حجم هذه القوى أمكن أن نتعرف على بعض جوانب قوتها والكثير من جوانب ضعفها . عرفنا مثلاً، وعرف الناس بعد أن أدوا واجبهم الانتخابي، أنه في السياسة لا يجب أن ننتظر النائب أو الحزبي أو الزعيم ldquo;الكاملrdquo; في الأخلاق وفي أهليته لتمثيل الشعب والدفاع عن حقوقه . عرفنا، أن للسياسي ldquo;الدينيrdquo; أو للديني ldquo;السياسيrdquo; شهوة للسلطة وامتيازاتها وسلوكياتها ليست أقل من شهوة العلماني والليبرالي والقومي والاشتراكي والمستقل . عرفنا، ويعرف القاصي والداني، أن قلة الخبرة والانبهار بالفوز وإغراء السلطة، كلها معاً، تدفع نحو ارتكاب أخطاء جسيمة في العلاقات بين قوى السلطة الإسلامية في الداخل والخارج، والأمثلة تتعدد يوماً بعد يوم، وتدفع نحو الإساءة إلى العلاقات بين الدول العربية من ناحية والدول الإقليمية من ناحية أخرى . بمعنى آخر يزداد اقتناعي الشخصي بأن النظام الإقليمي يتحول متدرجاً ومتسارعاً في آن واحد في اتجاه نظام ldquo;صراعاتrdquo; ذات طابع إسلامي ولكن تحت رايات ldquo;الدولة الوطنيةrdquo; .

عرفنا أيضاً المدى الحقيقي لقوة المؤسسات الأمنية وكفاءة أدائها . عرفنا أنها فقدت، مع مرور الزمن، قدرتها على قيادة المجتمع باستخدام قوة الإقناع وسحر القدوة لدعم قوة القمع، واستبدلتهما بقوة القهر وإرهاب الدولة غير عابئة بشعبيتها أو شرعيتها . اكتشفنا في مصر كما اكتشف الأشقاء في سوريا وتونس واليمن المدى الذي وصل إليه ضعف القوى المدنية والتيارات الليبرالية وانعدام أو قلة الخبرة السياسية لدى أطراف المعارضة .

اكتشفنا مثلاً، صحة ما ذهبنا إليه، وذهب إليه محللون كثيرون في الغرب عن انسحاب متعمد من جانب الولايات المتحدة من ممارسة دور القيادة بشكل عام وفي قضايا دولية بعينها بشكل خاص . يزعم بعض الأمريكيين من ذوي الميول الصهيونية ومن المحافظين الجدد، وبينهم كارهون لشعب سوريا وحكومته في آن واحد، أن الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية الزيادة المريعة في استخدام العنف ضد المتظاهرين في سوريا بسبب تخليها عن مهمة قيادة الحملة الدولية ضد النظام السوري . هؤلاء يريدون توريط أمريكا في أزمة دولية جديدة بعد أن فشلت مساعي توريطها ضد إيران . ومع ذلك لا يمكن إنكار أن التدخل الأمريكي في التمهيد لتغيير في سوريا مثل تدخلها في التمهيد لتغيير في دول أخرى وتدخلها في تطور الثورات بعد اشتعالها كان متردداً ومتقطعاً، وفي أحيان كان متناقضاً مع ذاته ومع تدخلات أخرى، وهو الأمر الذي كان سبباً في توتر العلاقات مع دول عربية كما حدث خلال الأيام الأولى للثورة المصرية، وكان سبباً في أخطاء جسيمة ارتكبها حلف الأطلسي في تدخله في ليبيا، ودفعت الثورة السورية حتى الآن ثمناً فادحاً له بسبب تدخل روسيا القائم على سياسة رفض التدخل .

واضح تماماً، الآن، أن روسيا لم تغفر لفرنسا وبريطانيا ما فعلتاه في ليبيا وأدى إلى إزاحتها والإضرار بمصالحها، وإن كان في ظني أن موسكو ليست حريصة حرص إيران حتى الآن على الأقل، على استمرار الرئيس السوري في منصبه ولكنها بالتأكيد لن تسمح بسهولة للدول الغربية بأن تزيحها من سوريا كما أزاحتها من ليبيا، وقبلها من العراق، ففي الحالتين كانت الخسائر الروسية كبيرة . في لقاءات خاصة لم يخف مسؤولون روس رأيهم، الذي لا يبتعد كثيراً عن آراء متناثرة صادرة من محللين إيرانيين، أن المعارضة السورية لم تنجح في إقناع كل من روسيا وإيران وحزب الله ومصر والعراق وأطراف أخرى بأن مصالحها ستكون في أمان . فالمعارضة لم تتوحد ولا يبدو أنها ستفعل ذلك في الأجل القصير، فضلاً عن أنها عجزت عن طرح صورة مقبولة لمستقبل سوريا في النظام الإقليمي .

لا تقتصر ldquo;إنجازاتrdquo; الثورة السورية على نجاحها في إبراز مدى التحول الحادث في العلاقات بين القوى الدولية الأكبر . فقد اكتشفنا أيضاً مدى قوة التزام حكومة الطيب أردوغان بخطة حكومته توسيع النفوذ التركي في دول الشرق الأوسط، وبخاصة الدول العربية . لقد بدا واضحاً خلال الأيام القليلة الماضية أن أنقرة أعادت النظر في تفاصيل سياستها الخارجية في المنطقة العربية ومع إيران، ولكن مع سوريا بشكل خاص . أدركت أنقرة فيما يبدو أن التقييم الأولي للثورة وقوى المعارضة وقوة النظام والتعقيدات الاستراتيجية المحيطة بسوريا، لم يكن دقيقاً أو كان على الأقل متسرعاً ومتأثراً بتطور الأوضاع في تونس ومصر، وقد اتضح بما لا يقبل الشك أن خططاً عديدة وضعت في مطلع الثورة السورية ثبت بعد قليل أنها غير قابلة للتنفيذ، بسبب صعوبات داخل سوريا ولكن أيضاً بسبب التغيرات شبه اليومية التي تحدث في توازنات القوى الإقليمية المؤثرة في الوضع السوري . أستطيع أن أتفهم القلق التركي من تدخل عسكري، على أي شكل وبأي قوة، من جانب دول خليجية وليبيا عن طريق الأردن أو لبنان أو العراق، وأستطيع في الوقت نفسه، أن أتفهم القلق الإيراني من تطورات الوضع في سوريا، حتى لو كان بعض مؤشراتها يشير إلى أن الثورة دخلت مرحلة الإنهاك من دون أن يعني هذا أن النظام على الطريق لتحقيق نصر حاسم .

لا يوجد كثيرون مستعدون لأن يراهنوا على عودة المنطقة إلى وضع أو أوضاع كانت عليها قبل نشوب ثورة تونس وما لحق بها من ثورات . لا عودة ولا يصح تسويق وهم العودة أو ما شابهه، والأسباب كثيرة ليس أقلها شأناً وإقناعاً الأسباب المتعلقة بنشوب الثورة وكذلك كل ما يتعلق بملابسات ما كان يخطط له في بعض أجهزة الغرب للتأثير في أوضاع الحكومات والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني قبل نشوب الثورات العربية . هناك أيضاً التغيرات الجذرية في أنظمة الحكم في دولة أو أكثر من دول الثورات وتولي قوى ldquo;سياسيةrdquo; جديدة مقاليد السلطة والنية المبيتة لدى هذه القوى لتغيير عقيدة الحكم في المنطقة بأسرها