فيصل جلول

أكدت إيفا جولي القاضية السابقة الشهيرة بنزاهتها والمرشحة للانتخابات الرئاسية الفرنسية عن تيار الخضر، أن محمد مراح كان يمكن أن يعتقل مرتين قبل قتله . الأولى قبل حادثة مونتوبان فهو كان معروفاً ومراقباً من الأجهزة الأمنية المختصة بسبب سفره إلى أفغانستان وتلقيه تدريبات عسكرية في وزيرستان، بحسب الأنباء المنشورة في عدد من وسائل الإعلام الفرنسية، فضلاً عن شكوى تقدمت بها جارته في المبنى، حيث يسكن، بزعم أنه يسعى إلى ldquo;أدلجةrdquo; ابنها وممارسة ضغوط قوية عليه . وكان يمكن اعتقاله في المرة الثانية بعد أن قتل الجنود الفرنسيين، وبالتالي نصب كمين له والإمساك به فور خروجه من المنزل لقضاء حاجة ما . وتخلص جولي إلى أن وزير الداخلية كلود غيان تعاطى مع هذه القضية بطريقة مسرحية في أجواء انتخابية يحتدم فيها التنافس بين المرشحين للرئاسة من تيارات سياسية مختلفة .

كان يمكن لهذه السيدة الشجاعة أن تفصح أكثر عن رأيها في هذه القضية لولا الاعتبارات الانتخابية، وبالتالي أن تلقي المزيد من الأضواء على الحل الأمني الذي تعتمده الحكومة في التعاطي مع هذا النوع من القضايا ومع قضية الضواحي الفرنسية عموماً، وذلك من أجل الفوز بمشاعر وبأصوات تيار اليمين المتطرف الذي تتزعمه مارين لوبن . فهذا التيار يعتقد أن الأجانب والفرنسيين من أصل عربي هم السبب الأساسي في المشكلات التي تعانيها فرنسا اليوم على مختلف الصعد . فالاضطراب الأمني ناجم عن وجودهم وهم يتسببون بالبطالة المرتفعة ويرهقون صناديق التقاعد والضمان الاجتماعي . . إلخ .

وعلى الرغم من ثبوت خطأ هذه الادعاءات عبر دراسات علمية، ورغم اقتناع أركان الدولة بأن فرنسا تحتاج إلى الهجرة والمهاجرين الأجانب حاجة حيوية، وأن وجودهم يسهم بارتقاء الفرنسيين الذين يبدأ الارتقاء عندهم من مرتبة ما بعد الأجنبي، على الرغم من ذلك كله، لا يكف قسم مهم من الفرنسيين عن استخدام الأجانب كبش محرقة والاقتراع للتيار اليميني المتطرف الذي يعد بطردهم وباعتماد المزيد من الإجراءات الأمنية ضدهم . ولعل إصرار وزير الداخلية الفرنسي على اعتماد مشهد أمني درامي حول منزل محمد مراح المحاصر واستدراج البث المباشر لأكثر من ثلاثين ساعة للتفاصيل الصغيرة والكبيرة على حد سواء، يراد منه القول للفئة التي تكره الأجانب، هذا نحن وهذا ما سيفعله الرئيس نيكولا ساركوزي لو أعيد انتخابه رئيساً للجمهورية لولاية ثانية .

والواضح أن سيرة محمد مراح ليست فريدة من نوعها في ضواحي البؤس في فرنسا وأن الرجل ليس حالة خاصة، كما توحي بعض التعليقات السطحية أو المستعجلة، فهناك آلاف الشبان الذين يعانون ما عاناه هذا الشاب، وقد يسير عدد منهم على رسمه بدافع اليأس والأفق المسدود والعيش في ما يشبه المعازل الاجتماعية في ضواحي المدن . ويكاد مختصر سيرة مراح أن يلخص حرفياً سيرة الآلاف من أبناء جيله، فهو لم يكمل دراسته وانخرط بصعوبة في سوق العمل مؤدياً وظائف متدنية الأجر وظرفية ولا تدعو إلى الفخر الاجتماعي في مجتمع مغاربي معزول في إحدى ضواحي مدينة تولوز . والإخفاق الدراسي ومن بعد الوظيفي يفتح الباب أمام المغامرات الشخصية السيئة كالسرقة والاغتصاب والتعدي على رجال الشرطة، ومن ثم السجن وفيه تلقى محمد مراح، وليس في أفغانستان، الدروس الأولى في الأصولية الدينية، وفي السجن، في فرنسا وليس في وزيرستان، عثر محمد مراح على الأيديولوجية الجهادية التي اعتقد أنها الرد المناسب على انسداد الأفق الذي يعانيه مع جيل كامل من الشبان ذوي الأصول العربية والإفريقية .

ليست مشكلة محمد مراح ناجمة عن الأيديولوجية الأصولية بل عن شروط الحياة في معازل بائسة حول المدن المثقلة بالثراء والحياة الجميلة . في هذه الضواحي تعلم هذا الشاب مع أبناء جيله شعارات الإخاء والمساواة والحرية، وفي هذه المعازل اكتشف أن لا قيمة لما تعلمه في سوق العمل وفي الدراسة والطبابة، حيث لا مساواة ولا إخاء ولا عدالة متساوية . وفي هذه المعازل اكتشف محمد مراح أن أبناء جلدته كلهم سواء، وأن أسماءهم وعناوينهم ولون بشرتهم ولهجتهم ودينهم وطعامهم ولباسهم . . إلخ، هي مؤشرات إلى هويتهم المرفوضة والتي تستدرج الصد والاستثناء في سوق عمل تنخرها العنصرية المكتومة والأعراف السيئة وكره الأجانب فضلاً عن ldquo;الإسلاموفوبياrdquo; .

والثابت أن محمد مراح ذهب إلى أبعد مما ذهب أغلبية مجايليه، فقد أراد أن ينتظم في الفرقة الأجنبية التابعة للجيش الفرنسي، إلا أن طلبه رفض بسبب أحكام السجن الجنائية التي تلقاها في سن مبكرة، ما يعني أنه صار تربة صالحة لأول خطاب أصولي يسمعه، ولأول محرض يخبره أن مأساته هي كمأساة أهله من قبل ناجمة عن كونه مسلماً في مجتمع لا يحب المسلمين، وفي غرب يدعم ldquo;إسرائيلrdquo; والصهاينة . والراجح أن مراح لم يكن يحتاج إلى من يحرضه من بعد، إذ تفيد بعض الأنباء أن أخاه الأكبر تولى تربيته الأيديولوجية بعد خروجه من السجن، أما وجوده في أفغانستان ووزيرستان فكان لتلقي التدريب على السلاح واكتساب الخبرة العسكرية اللوجستية .

يصعب في هذا الوقت قياس حجم التأييد الذي سيحظى به الرئيس المرشح ساركوزي من جراء الاستعراض الأمني الذي نظمه وزير الداخلية في قضية محمد مراح، لكننا نتوقع منذ الآن أن يسير أشخاص آخرون في ضواحي البؤس على رسمه، وبهذا المعنى ليس مراح حالة فريدة، بل هو فرد في بركان من غير المعروف متى وكيف ينفجر في ضواحي البائسين في فرنسا .