عبدالله ناصر العتيبي


كنت قد كتبت في هذه الصحيفة قبل ثلاث سنوات مقالاً بعنوان laquo;الفرق بين جهاد كاكا وجهاد بن لادنraquo; تناولت فيه كيفية دعوة الاثنين -كلٍّ على حدة- لدينيهما. الثاني يقتل الناس في مشارق الأرض ومغاربها ليهدي الناس إلى دين الإسلام، يفجر الأبرياء في الشوارع ليريهم طريق الحق، يرسل الطائرات المفخخة بمئات الأجساد الى ناطحات السحاب المليئة بآلاف الأرواح البريئة ليضيء طريق الغافلين في عتمة الضلالة، يرسل رسائل القتل والتكفير ليستقبل الأرواح الهائمة الحائرة التي تبحث عن سكون أخروي! الثاني، الشيخ بن لادن السلفي يبحث عن النتيجة البيضاء في المعطيات السوداء!

بينما الأول يحقق أحلام الملايين ثم يريهم بضاعته التبشيرية في عز فرحتهم وتحليقهم و laquo;تبخر أرواحهمraquo;. حدث هذا في نهائي كأس القارات بجنوب أفريقيا قبل ثلاث سنوات، فبمجرد إعلان الحكم نهاية مباراة البرازيل وأميركا، صاحت آلاف الجماهير في الملعب احتفالاً بفوز البرازيل. تضامن مع صيحاتهم مئات الملايين من الناس في أرجاء المعمورة. الفريق البرازيلي هو الفريق المفضل لدى غالبية أهل الأرض. مشجعو كرة القدم في العالم ربما يختلفون حول طريقة الوقوف خلف منتخبات بلدانهم، لكن الغالبية الكبيرة منهم تتفق على مساندة أبطال laquo;السامباraquo; أينما ارتحلوا وأينما حلّوا. البلايين من مختلف الجنسيات يصطفون في حديقة حب الفن البرازيلي منذ الخمسينيات، حينما كان laquo;بيليهraquo; يرسل رسائل laquo;الحب والإخلاص والتسامحraquo; عن طريق موهبته الكروية العظيمة.

أعلن الحكم نهاية المباراة، فتأججت مشاعر مئات الملايين ووصلت إلى الحدود العليا من laquo;التبخر الروحيraquo;، وفي مرحلة التبخر الروحي تتداخل القناعات والمسلّمات والاعتقادات فتصبح شيئاً هلامياً رجراجاً يمكن اختراقه بسهولة.

أعلن الحكم نهاية المباراة، فخلع الولد الموهوب جداً laquo;كاكاraquo; فانيلته وأومأ لزملائه أن افعلوا مثلما فعلت. وكانت المفاجأة أن لاعبي المنتخب البرازيلي جميعاً كانوا يلبسون فانيلات داخلية بيضاء تحت فانيلاتهم الرسمية مكتوباً عليها جملٌ تتحدث عن حبهم وانتمائهم للمسيح عيسى بن مريم (عليه السلام).

المسيحيون البرازيليون عبّروا عن انتمائهم لدينهم وحبهم للمسيح -عليه السلام- بطريقة حضارية وراقية جداً وذكية جداً. نحن -المسلمين- أيضاً نحب المسيح -عليه السلام-، ونحب نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم- أكثر، لكننا في المقابل نحترم كثيراً الطريقة التي عبر بها البرازيليون عن مدى تعلقهم بدينهم ورمز دينهم. ونعرف أنهم بهذه الحركة الذكية كسبوا مئات الألوف من القلوب المترددة والخائفة والمصابة بالشك، وتلك التي قررت أن تبدأ رحلة البحث عن الحقيقة!

الاعتقادات والمسلّمات والقناعات تتداخل في أوقات الحزن الشديد والفرحة الشديدة، وبالتالي يسهل على من يريد أن يدعو لمِلّته أن يستغل هذه الأوقات تحديداً ليملي ما يريد أن يمليه بشكل حضاري وغير مباشر.

كاكا وزملاؤه كانوا قبل ثلاث سنوات تبشيريين بامتياز، كانوا -من وجهة نظري- أفضل من دعا للدخول في المسيحية خلال المئة سنة الماضية. لم يرفعوا أصواتهم، لم يرفعوا سيوفهم، لم يشككوا في بقية الأديان. كل ما فعلوه أنهم قالوا بلسان الحال laquo;إننا نحب المسيح وننتمي إليهraquo; أمام مئات الملايين من المشاهدين المعجبين المتحفزين laquo;المتبخرة أرواحهمraquo;. كاكا، اللاعب الذي لا يفقه كثيراً في أمر دينه، بحث عن النتيجة البيضاء في المعطيات البيضاء.

بن لادن يزف الأرواح للموت بطريقة إسلامية مبتكرة ولا يعيدها لحالتها الطبيعية أبداً، وكاكا يشبك روحه بالأرواح المتبخرة ويرقص معها السامبا المسيحية.

بن لادن مات بشكل غامض ودراماتيكي. مات ضمن أحداث قصة أميركية يصعب تصديقها، لكنه اختفى على أي حال فغاب عن المشهد. وكاكا لم يعد الى مثل هذه الحركة ربما لأن البرازيل لم تفز مرة أخرى ببطولة جديدة خلال عهده laquo;الكابتناويraquo;. ما البديل إذاً؟!

للمسيحيين طرقهم ووسائل دعوتهم لدينهم، ويبذلون البلايين كل عام للتبشير بدينهم. غاب كاكا، لكن عندهم الكثير من الكاكات الذين يستغلون تبخر الأرواح لصرف هواجس وظنون المترددين الدينيين إلى مصارف المسيحية. لستُ منهم لذا لن أتحدث عنهم.

أنا مسلم يظن أن الدعوة غير المباشرة للدين الإسلامي هي أيسر الطرق وأسهلها للوصول إلى قلوب الناس. ويظن بشكل أعمق أن الدعوة من أسفل إلى أعلى لا يمكن أن تنجح بأي شكل من الأشكال. لا يمكن أن تُكلم الآخر عن الدين الإسلامي وسماحته وأنت ابن بيئة تتبنى الإقصاء وتقاتل دونه! لا يمكن أن يصل صوتي الذي يتحدث عن عدل الدين الإسلامي وأنا ابن بيئة يسرح الظلم فيها ويمرح. لا يمكن أن يتأثر الآخر بمساحات الصدق في الإسلام ونحن نستعذب الكذب ونتعامل به في حياتنا اليومية. لا يمكن أن أتحدث عن حرمة قتل الأرواح وبشاعة الاعتداء عليها والمسلمون يقتلون المسلمين بشكل يومي وبتفاصيل كثيرة وواسعة!

وفوق هذا كله، لا يمكنني أن أتحدث عن صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان ورحابته في احتواء المعارف والتطورات العلمية، وأنا ابن مجتمعات متخلفة اقتصادياً وتكنولوجياً وعلمياً.

هل العيب في الإسلام أم في أهل هذا الجيل؟!

لا أشك أبداً في عظمة الإسلام وقابليته العظيمة للتمدد والتشكل مع أحداث الزمان وأماكن المعمورة. المشكلة ليست في الدين كمنهج وطريقة وشِرعة. المشكلة بتفاصيلها كاملة تكمن في عقولنا نحن المسلمين المتأخرين الذين حملنا الإسلام اسماً وفقدناه موضوعاً ومحتوى، ومع ذلك نحاول أن نجلب الآخر من مكانه حيث النظام والعدل والصدق، إلى مكاننا حيث الفوضى والكذب والتعاملات اللاأخلاقية.

هل الموضوع بهذه السوداوية؟! هل نصبر عشرات السنوات المقبلة لتتغير أحوالنا وبالتالي نستطيع التأثير في الآخر؟!

لا، يكفي فقط أن نحول نظرنا إلى المدينتين الرائعتين أبوظبي ودبي.

هاتان المدينتان الجميلتان تقومان الآن بإصلاح منهج الدعوة الإسلامية بشكل غير مباشر. أبوظبي ودبي تقومان بحملات علاقات عامة كبيرة لتحسين صورة العرب والمسلمين. تقولان لزوارهما من الأجانب: هذا هو الوجه الحقيقي للعروبة. هذا هو التطور الذي تحميه المظلة الإسلامية. هذا هو القانون الذي يترعرع في فضاءات الرسالة المحمدية. هذه هي النظافة التي دعا إليها الدين الحنيف. هذه هي أخلاقيات التعامل التي كفلها الإسلام للبشرية. هذا هو التنوع الذي لا يزدهر إلا في البيئات الإسلامية المتسامحة. هذا هو العدل الذي لا يفرق بين مقيم ومواطن. هذا هو الإسلام في صورته المدنية. تعالوا إلى أحضاننا لتنعموا بمخرجات الإسلام ونتائجه الدنيوية العظيمة.

توصل المدينتان رسالتهما من غير تهديد ووعيد وتفجير وتفكير. توصلها كما يليق بدين سماوي متسامح عادل وعظيم القيم.