ماجد عزام

رغم الحديث الفلسطيني الدائم عن قضايا الحكومة والانتخابات والأمن كعقبات مانعة لإنهاء الانقسام، وتنفيذ اتفاق المصالحة الذي وقع في القاهرة في أيار الماضي، إلا أنني أعتقد أن تلك القضايا على أهميتها ليست سوى الاسم الحركي أو القشرة الخارجية للعقد الأساسية الثلاثة الأخرى: المفاوضات والتنسيق الأمني مع إسرائيل ورفض حماس التخلي عن السلطة الأمنية - في غزة، ولو بشكل تدريجي وهي العقد التي يتم تجاهلها والهرب منها بشكل منهجي، إما لصعوباتها وتعقيداتها، أو لإخفاء حقيقة الافتقاد للإرادة السياسية الحزبية والشخصية اللازمة لتجاوزها وصولاً إلى مصالحة جدية وفعلية وقابلة للحياة.
لا أعتقد أن ثمة فرصة جدية للمصالحة أقله من وجهة نظر حماس، - وفئات وقطاعات واسعة في الشارع الفلسطيني - دون مقاربة جدية ومختلفة لقيادة السلطة وفتح - لملفي المفاوضات والتنسيق الأمني مع الاحتلال. وإذا كانت الأولى ميتة سريرياً ولا فرصة جدية ليس فقط للتوصل إلى اتفاق، وإنما حتى للتفاوض مع الحكومة الأكثر يمينية وتطرفاً وانغلاقاً في تاريخ إسرائيل، بخاصة في ظل الانزياح الشعبي المستمر نحو اليمين ويحتاج الأمر إلى امتلاك الشجاعة الشخصية والسياسية للاعلان الرسمي عن ذلك، وفي الحد الأدنى التمسك بالشروط المعلنة لاستئناف المفاوضات والمتمثلة بالمرجعية الناظمة والمؤطرة للتفاوض، ووقف الاستيطان والسقف الزمني، وهي أمور لا يمكن ولن يمكن توقع القبول بها لا من هذه الحكومة ولا من غيرها.
التنسيق الأمني مرتبط مباشرة بالمفاوضات وعملية التسوية، وهو أمر يجب أن يتوقف تماماً ليس فقط من أجل المصالحة والمصلحة الوطنية بشكل عام، وإنما بسبب قيام إسرائيل بالتخلي عن جوهر وروح الاتفاقيات والتفاهمات الثنائية والهدم المتعمد للولاية السياسية والقانونية للسلطة في نطاق سيطرتها التي لا تمثل مجتمعة أكثر من أربعين بالمائة من مساحة الضفة الغربية، غير أن ذلك يستلزم نقاشاً حول واقع ومستقبل السلطة ككل. وبما أن حلها بات شبه مستحيل يمكن الاكتفاء بحل جوهرها الأمني المتعلق بالتنسيق مع الاحتلال والاكتفاء بالإشراف على مناحي الحياة المدنية الأخرى للشعب الفلسطيني، ما يعني بالضرورة تهدئة علنية ورسمية في الضفة والانخراط في مقاومة شعبية واسعة من قبل فئات وقطاعات الشعب الفلسطيني المختلفة وفق روح ميدان التحرير وبنموذج أقرب إلى الانتفاضة الأولى في ثمانينات القرن الماضي، ودون التخلي عن العمل السياسي والدبلوماسي ضمن مزاوجة مبدعة وخلاقة حسب ما جاء في وثيقة الوفاق الوطني التي كانت وما زالت معبّرة عن نقاط التلاقي الفلسطيني ولو في حدها الأدنى.
المعطيات السابقة يمكن أن تساهم في إقناع حماس بالتخلي عن سيطرتها المطلقة على السلطة في قطاع غزة كشرط لازم لإنهاء الانقسام وإنجاز المصالحة، علماً أن وثيقة القاهرة تعاطت بواقعية وانفتاح مع هذا الأمر ونصت على دمج تدريجي لثلاثة آلاف عنصر من قوات الأمن الوطني التابعة للرئيس محمود عباس في المنظومة الأمنية بغزة خلال عام ضمن رؤية واسعة تلحظ مرحلة انتقالية تهدف إلى تهيئة الأجواء المناسبة أمام إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية - والمجلس الوطني - مع الانتباه إلى أن إنهاء سيطرة حماس الأحادية والمطلقة ضرورة ملحة ليس فقط من أجل المصالحة، وإنما لمواجهة الأزمات الهائلة التي يعانيها الغزيون في مناحي الحياة المختلفة، حيث الانهيار التام في البنى التحتية والافتقاد إلى أبسط مقومات الحياة بعدما نجح الاحتلال مستفيداً من غباء الطبقة السياسية الفلسطينية وعنجهيتها في ربط غزة بما يشبه المصل أو المحلول الغذائي كي تبقى على قيد الحياة لا تموت ولكن أيضاً لا تتعافى أو تمارس حياتها كما ينبغي وبصورة طبيعية.
المقاومة الشعبية، ورغم أنها مثلت ما يشبه الحل الوسط بين حماس وفتح إلا أنها لا تكفي وحدها لإدارة الصراع مع إسرائيل، وإنما يجب أن تندرج ضمن تصور استراتيجي موحد ومتماسك يستند إلى إنهاء الانقسام وإنجاز المصالحة وفق خريطة الطريق السالفة والاقتناع التام أن تجربة العقدين الماضيين، كما الظروف والمستجدات تدفع باتجاه الإقلاع عن المفاوضات والتنسيق الأمني. ولا يعني هذا بأي حال من الأحوال الانتقال إلى حالة حرب مع إسرائيل، وإنما خوض معركة استنزاف شاملة وبوتيرة منخفضة لرفع كلفة الاحتلال دون إعطائه الفرصة للتنكيل بالشعب الفلسطيني؛ واستخدام الحد الأقصى من القوة ضده، خاصة في زمن الثورات العربية وميدان التحرير المتنقل الذي يمثل من جهة مانعاً لإسرائيل من التنكيل بالشعب الفلسطيني، ومن جهة أخرى يحول بين الدول العربية من الانتقال الفوري من حالة السلام والتهدئة إلى حالة العداء والحرب مع إسرائيل. وهذه الضبابية ستستمر لعقد على الأقل ما يعني ضرورة اعتماد الفلسطينيين على أنفسهم وخوض المعركة بما يتناسب مع إمكانياتهم والوقائع المستجدة لضمان تحقيق أكبر قدر من المكاسب بأقل قدر ممكن من الأضرار والخسائر.