عبد الرزاق قيراط
تدخّل المقصّ بعجالة في فضائيّة المرزوقي إذا صحّ التعبير ونقصد بها موقع الرئاسة على الفيسبوك حيث تنشر أخباره بالصوت والصورة لتوفير قناة إضافيّة تعلم الشعب بأنشطته في ظلّ التعتيم الذي يمارسه الإعلام الرسمي على السلطات الجديدة بعد أن قرّرت نشرات الأخبار اتباع خطّ تحريريّ جديد عنوانه الأبرز القرب من المواطن والابتعاد عن الرؤساء والوزراء.
آخر التقارير المنشورة بالموقع تتصل بزيارته لإحدى أسواق العاصمة حيث استقبل بحرارة، فهتف التجار بحياته وأقدم اثنان منهم على تقبيل يده، وليت ذلك لم يحدث، فقد كادت تلك البوسة أن تتسبّب في إسقاط المرزوقي بالضربة أو لنقل بالقبلة القاضية، بعد أن جاءه العتاب والصدّ والعقاب من كلّ حدب وصوب.
في البداية ردّت الرئاسة التونسية بأنّ الأمر 'تصرف عفوي ودّي من مواطنين محترمين مع رئيس الجمهورية'. ولكنّ التقبيل فعل فعله وأدّى إلى مواجهة ساخنة مع المعارضة التي استمتعت إلى حدّ بعيد بخطيئة الرئيس وبنت على القبلتين موجة غضبها خوفا على الديمقراطيّة ودرءا للدكتاتوريّة. وحتّى لا يتطوّر الموقف، سارع المشرفون على موقع الرئاسة إلى حذف مشهد القبلة كما تفعل الرقابة مع المشاهد الساخنة في قنواتنا المحتشمة. لكنّ محمود البارودي النائب عن الحزب الديمقراطي التقدمي طالب الرئيس بتقديم 'اعتذار إلى الشعب'، لأنّ مشهد تقبيل يده 'رجع بنا إلى عهد السلاطين وهو ممارسة غير مقبولة من مناضل حقوقي'.
وهكذا تدخّل المقصّ الحارس رحمة بالشعب، ليقطع المشهد ويقطع معه كلّ السبل الأخرى لمزيد التنكيل بالرئيس بسبب قبلة أصابته في غفلة منه، و'جاءنا البيان التالي' من رئاسة الجمهوريّة يقول بكلّ حزم 'قرّرنا قطع المشهد رفعا للالتباسات خاصة وأنّنا بصدد التأسيس لعلاقة جديدة بين السلطة والمواطن مبنيّة على احترام كرامته كمكتسب من مكتسبات الثورة'. والبيان بلهجته الجادّة، لا يمنعنا من الضحك خاصّة إذا تخيّلنا هبّة جديدة لأحد المعارضين يندّد فيها بسياسة التعتيم التي تنتهجها رئاسة الجمهوريّة وهي ترتكب جرما يتنافى مع حريّة التعبير بقطعها للمشهد وإخفائه عن الأنظار.
وقد جاء في الموسوعة الفقهية: 'يجوز تقبيل يد العالم الورع والسلطان العادل والأستاذ وكل من يستحق التعظيم، إذا كان على وجه المبرّة والإكرام، وتديّنا واحتراما مع أمن الشهوة.'
لكنّ ذلك لم يشفع للمرزوقي، فخضع لموقف الغاضبين وعلى رأسهم النائب الذي صار احتجاجه بمثابة الفتوى التي حرّمت نهائيا تقبيل الرئيس بدافع أمن الشهوة وخوفا من تبعاتها الساخنة جدّا، باعتبار أنّ القبلة مقدّمة للدخول والبناء مع الدكتاتوريّة من جديد.
فتافيت المطبخ السياسي التونسي
قد تكون باريس قبلة الراغبين في تعلّم فنون الطبخ السياسيّ، وقد أقيمت فيها الولائم مؤخّرا على هامش الانتخابات الرئاسيّة. فتصاعدت روائح الشواء منذ بداية الحملة الانتخابيّة. وكان اللحم حلالا باختيار ساركوزي الذي عرف من أين تؤكل الكتف في الانتخابات السابقة، ففاز بفضل الفزّاعات التي استعارها من اليمين المتطرّف، لذلك أراد أن يدغدغ الأنوف مرّة أخرى بروائح اللحم الحلال ترهيبا لا ترغيبا. لكنّ الناخبين وكما توقّع المراقبون لم يرغبوا في الإقبال على نفس الطبق مرّة أخرى.
في ذات المكان والزمان، اكتشف الصحفي سمير الوافي طبخة مريبة بطلها الباجي قايد السبسي. هكذا قال لنا في الحلقة الأخيرة من برنامج الصراحة راحة التي أثارت جدلا واسعا بسبب ضغوطات سلّطت عليها من 'جهات وأطراف' كما نقول دائما في تونس حين نخشى التصريح بهويّتها. وقد فشلت تلك الأطراف في إقناع الصحفيّ بحذف فقرة وصفها بالمزعجة، لكنّها نجحت في منعها من إعادة البثّ. وهذا أمر مضحك، فالحلقة بعد بثّها الأوّل، انتشرت تسجيلاتها في المواقع الاجتماعيّة وصارت محاصرتها أمرا مستحيلا. ولعلّ الوافي أراد أن يوهمنا من خلال ما نشره على صفحته بالفيسبوك أنّ تحرّياته فضحت تلك الأطراف و'كشفت أوراقهم، وقد استعملوا نفوذهم وعلاقاتهم لمنع إعادة الحلقة'. وهو بذلك يتحدّث عن 'سبقه الإعلاميّ' بكشفه عن لقاء قايد السبسي مع رجل الأعمال السعودي الوليد بن طلال وسلفيو برلسكوني رئيس وزراء إيطاليا السابق، وقد ظهروا جميعا في صورة أخذت لهم بأحد النزل الباريسيّة الفخمة حيث يدبّرون لأمر يثير الريبة حسب فهمنا من شكوك الوافي التي تحدّثت عن طبخة تونسيّة بنكهة إيطاليّة باريسيّة سعوديّة، ما يجعل مذاقها غريبا أومقرفا بتلك الخلطة العجيبة.
ومع أنّ الصحفيّ أراد أن يقنعنا بسبقه من خلال حصوله على الصورة بوسائله الخاصّة فإنّنا نستبعد أن يكون ذلك صحيحا والأقرب إلى الظنّ أنّ قايد السبسي هو المرسل لها عن طريق طرف ثالث انطلاقا من حبّه للأضواء من جهة، وردّا على تحقير النهضة له بعد أن شبّهه لطفي زيتون بملح الطعام تقزيما لدوره السياسيّ.
ولأنّ سمير الوافي، يشدّ الأنظار إلى برنامجه من خلال استضافته لأصحاب القرار، فإنّه أصبح راعيا بامتياز لكل العاملين في المطبخ السياسيّ التونسيّ بمن فيهم قايد السبسي الذي استغلّ شعبيّة البرنامج لتمرير صورة توحي بنفوذه المتصاعد وذلك برعاية خاصّة من سمير الوافي!
إعلام ما بعد الثورة يطالب بعودة بن علي!
نشرة أخبار الثامنة، عجّل الله بإصلاحها، استضافت لنا باحثا اجتماعيّا ليحدّثنا عن ظاهرة جديدة في تونس ما بعد الثورة وهي ارتفاع نسبة الجرائم بأنواعها. كان الخبر يتعلّق بالقبض على قاتلة أجهزت ذبحا وطعنا على طفلتين بريئتين لأسباب عائليّة. والحدث بمضمونه المؤلم، يهمّ التونسيين جميعا، لذلك خصّص حيّز زمنيّ لتحليل أبعاده ومعرفة أسبابه وطرق علاجها، وهذا ما توقّعناه من الضيف ولكنّه عقّب بما يشبه العقاب للحكومة المؤقتة انسجاما مع سؤال الصحفيّة. فقد طلبت منه باسم الشارع التونسي المنشغل جدّا تفسيرا لارتفاع عدد الجرائم في هذه الفترة بالذات، فقالت : 'هل للفوضى السياسيّة التي تعيشها البلاد منذ الثورة علاقة بهذا الكمّ من جرائم القتل والاغتصاب والسلب والانتحار؟'
والسؤال بذلك الإسقاط ليس غريبا فقط بل متحاملا نظرا لخلوّه من كلّ المدعّمات الإحصائيّة. وقد أكّد جواب الأستاذ في علم الاجتماع ما ذهبت إليه السائلة وما أرادت أن تحقّقه في مستوى الوصل بين الجريمة والظرف السياسي الجديد، فاعتبر أنّ المجتمع التونسي يعيش في هذه الفترة حالة من العدوانية التي ينتعش فيها العنف ' نظرا لغياب دور الدولة وضعف شوكتها التي تردع الناس'. وحين سئل عن العقاب ومدى مناسبته للجرم المرتكب، عرّج للحديث عن العفوالذي مكّن عددا من المساجين من تقاسم فضاء الحريّة مع بقيّة المواطنين، فأوحى لملايين المشاهدين أنّ القاتلة من المفرج عنهم في إطار ذلك العفو، وهوأمر غير صحيح. والمهمّ أنّ الصحفيّة عبّرت في النهاية عن الشعور الذي ينتاب التونسيّ اليوم فقالت : 'إنّه يعيش خوفا حقيقيا وقد فقد الطمأنينة'. وهكذا فهمنا الرسالة ومحصّلتها أنّنا كنّا في وضع أفضل في عهد المخلوع!
وقبل أن نصحومن صدمة هذه الفكرة التي بثتها النشرة في عموم الناس، استيقظنا في اليوم التالي على عنوان كبير لجريدة المغرب يبشّرنا بنتيجة سبر الآراء الذي أنجزته مع مؤسّسة سيجما فكتبت في عنوانها الرئيسيّ أنّ' 42 بالمائة من التونسيين يعتقدون أنّ الوضع مع بن علي أفضل من اليوم '.
وبذلك يتأكّد لنا التناغم التامّ بين وسائل الإعلام العموميّة والخاصّة بالتعاون مع المحلّلين ومؤسسات سبر الآراء. فما جاء في أخبار التلفزيون الرسمي تلميحا أكّدته جريدة المغرب تصريحا للمطالبة ربّما بعودة بن علي حاكما مأسوفا على خلعه.
كاتب من تونس
التعليقات