عبد الحميد الأنصاري


فيما دخلت مصر مرحلة الصمت الانتخابي تمهيداً لبدء الاقتراع الرئاسي فإن الظاهرة الأبرز التي شهدتها الساحة الانتخابية المصرية، هي ظاهرة استغلال منابر بيوت الله تعالى للدعاية الانتخابية للمرشحين الإسلاميين، إضافة إلى سلاح الفتاوى الدينية والذي كان سلاح quot;الإخوانquot; الأبرز في الحملات الدعائية. ومع أن هناك قانوناً يحظر استغلال المساجد للدعوة لمرشحي الرئاسة ورغم مناشدة وزير الأوقاف المصري جميع مرشحي الرئاسة ضرورة الحرص على احترام حرمة المساجد وعدم استغلالها في الدعاية الانتخابية لأن هذا محرم شرعاً، مؤكداً ضرورة أن تظل المساجد بيوتاً لله وصروحاً للعبادة لا يجوز الزج بها في مهاترات وخلافات سياسية تفسد على المسلمين روحانياتهم وصفاءهم وأداءهم للشعائر الدينية، وبالرغم -أيضاً- من سعي وزارة الأوقاف المصرية والأزهر الشريف للعمل على التزام الحياد والبعد عن الدعاية الانتخابية لأي من المرشحين في انتخابات الرئاسة المصرية وعدم الانحياز لفصيل أو اتجاه أو استخدام المنابر في الدعاية لأحد، إلا أن منابر المساجد والفتاوى والدعوات الدينية وظفت كلها في ماراثون انتخابات الرئاسة المصرية لصالح الإسلاميين ضد المنافسين غير الإسلاميين. بل الأنكى من ذلك أن مرشح الرئاسة الإخواني محمد مرسي عقد مؤتمراً بقاعة جامعة الأزهر قام فيه بدعوة الأئمة والدعاة ورجال الدين الحاضرين إلى الدعوة له في مساجد مصر باعتباره المرشح الوحيد الذي يدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية. أما الدكتور منير جمعة، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، فقد أفتى بعدم جواز التصويت لمرشحي الفلول في انتخابات الرئاسة قاصداً أحمد شفيق وعمرو موسى، مؤكداً أن quot;التصويت لهما لا يجوز شرعاًquot;. ودعا الشيخ القرضاوي من فوق منبر الجمعة بالدوحة -مؤخراً- الشعب المصري إلى إعطاء أصواتهم للمرشحين الإسلاميين، وعدم انتخاب مرشحي quot;الفلولquot;، أما الشيخ أحمد المحلاوي -إمام وخطيب أكبر مساجد الإسكندرية، والمعروف بتبعيته لجماعة quot;الإخوانquot;- فقد فاجأ آلاف المصلين في خطبته بصلاة الجمعة بشنه هجوماً عنيفاً على الدعوة السلفية، واصفاً موقفها بعدم اختيار المرشح الإخواني بالموقف المخزي، مضيفاً أن على جميع المسلمين، التكاتف خلف المرشح الإخواني لأنه صاحب مشروع نهضة إسلامية كبرى سوف تعلي راية الإسلام في العالم وليس في مصر فحسب! ولم يكتف خطيب quot;الإخوانquot; بهذه المطالبة، بل أضاف: quot;وأنا عندما أقول لكم ذلك، فإني أقولها كما لو كنت أقول لكم إن الصلاة فرض، أي أن الأمر لا يحتمل مناقشة أو مواربة أو اختيارات شخصيةquot;.

وللمرء أن يتساءل أمام هذا المنطق الحزبي الضيق: إذا كان انتخاب مرسي واجباً شرعياً كالصلاة، ففيم إتاحة الفرص للتنافس الانتخابي؟ ولماذا تتكبد الدولة المصرية الأموال الباهظة من أجل هذا السباق الانتخابي؟ ولماذا كل هذه الاستعدادات والتحضيرات؟! ومن جانب آخر: إذ سلمنا بهذا المنطق الإقصائي الذي يريد فرض خيار سياسي حزبي على المصريين من دون أن يسمح لهم بأي مناقشة أو اعتراض، على أنه خيار ديني مفروض، فإن الذين لا يصوتون ومن يصوّتون لغير مرشح quot;الإخوانquot;، هل كلهم آثمون؟! هذا هو منطق الدولة الدينية الذي يؤسس لدكتاتورية دينية أشد وأعظم من كافة الديكاتوريات السياسية، والويل لأمة تستسلم لهذا المنطق الاستبدادي.

على أن إشكالية عقلية الشيخ المحلاوي لا تكمن في نفي الآخر، سلفياً وغير سلفي، فحسب، بل إنها عقلية لا ترى في استغلال بيوت الله تعالى للدعاية الانتخابية أي حرج! لذلك يرفض المحلاوي قانون حظر استغلال المساجد للدعوة للمرشحين، بل يتبجح قائلاً: quot;هذا كلام لا نعترف به، ومن حقنا أن نستخدم مساجدنا -لاحظ أن المساجد لله- في أمور نراها ستعود بالنفع على المسلمين وعلى الإسلام وعلى الدين الإسلاميquot;. فهو قد نصّب نفسه مرجعاً إسلامياً أعلى فوق مؤسسات الدولة الرسمية وفوق شيخ الأزهر والهيئات الدينية، وهو الذي يقرر -منفرداً- ما يراه صالحاً للمسلمين، لذلك يضيف: quot;أنا عندما أدعو لانتخاب محمد مرسي فإنني أدعو بشيء أراه في مصلحة الإسلام، ولا شيء في استخدام المسجد في ذلكquot;!

مشكلة هذه العقليات أنها مستبدة بطبيعتها فلا تقبل حواراً أو نقاشاً لأنها تعتقد أنها تملك الحقيقة الدينية كاملة، لذلك لا تعترف بكافة النصوص الدينية التي تأمر المسلمين بتنزيه بيوت الله تعالى عن الصراعات السياسية والخلافات المذهبية المفسدة لذات البين. المساجد لله تعالى وليست لحزب سياسي أو جماعة دينية، فبأي حق وبأي مبرر أو منطق صحيح يعتدي هؤلاء الحزبيون على قدسية المساجد؟! يقول تعالى: quot;وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداًquot;، وهؤلاء قد اختطفوا المساجد لأهوائهم السياسية والحزبية الضيقة وحولوا منابرها -التي هي منابر للهداية والنور والتراحم والتسامح وجمع كلمة المسلمين- إلى منابر للشقاق والتحزب والتفرق والصراع والفتنة والفساد والظلم! أي عدالة وأي إنصاف وأي تكافؤ في الفرص بين المرشحين للرئاسة إذا سمح لفصيل سياسي باحتكار منابر بيوت الله للدعاية لمرشحه؟! أليس من حق هؤلاء أن يرفعوا دعوى ويطعنوا في صحة نتائج انتخاب هذا المرشح الإخواني؟!

لماذا يبيح الشيخ المحلاوي وخطباء الإسلام السياسي لأنفسهم استباحة حرمة المساجد في الوقت الذي يحرمون فيه على الآخرين المنافسين ما أباحوه لأنفسهم؟! ما مصلحة المسلمين في أن تتحول منابر بيوت الله تعالى على يد الخطباء المسيسين إلى منابر لتأجيج الطائفية والمذهبية وتعميق الكراهية وتهييج الجماهير وزيادة الفرقة والانقسام بين المسلمين وإفساد ذات البين والإساءة إلى الآخرين؟! لماذا لا نجد مثل هذا الاستغلال السياسي لبيوت الله تعالى عند أتباع الديانات الأخرى التي تحرص كل الحرص على صيانة دور عباداتها من اللغو السياسي والعبث الحزبي؟! لماذا تسمح المجتمعات الإسلامية لهؤلاء الحزبيين أن ينتهكوا حرمة المساجد بإشغال المصلين بصراعات السياسة وألاعيبها؟! لماذا لا تُفرض عقوبات مشددة على هؤلاء؟! لماذا لا يُبعد هؤلاء عن منابر بيوت الله تعالى؟ يكاد المسلمون اليوم يكونون الأمة الوحيدة التي حولت منابر بيوت الله تعالى إلى منابر سياسية حزبية متصارعة!

وأكثر ما أخشاه اليوم، أن هذه الدعوة إلى تحييد المساجد في الصراع الحزبي لن تجد استجابة في ظل صعود الإسلاميين وهيمنتهم على السلطة.