يحيى الأمير


السعوديون لا يتعاملون مع أبناء الملك عبدالعزيز على أنهم طبقة حاكمة ذات أسرار وأفكار تدار خلف أبواب مغلقة، بل هم جزء من النسيج الاجتماعي والثقافي للسعودية

على مدى الأيام الماضية، ومنذ أن نعى خادم الحرمين الشريفين أخاه ولي العهد الأمير نايف بن عبدالعزيز، رحمه الله، كانت الأسئلة التي تدور على ألسنة المحللين وقارئي نشرات الأخبار تتركز حول المستقبل والتعيينات الجديدة والأسماء المتوقعة لتملأ المنصبين الشاغرين، ولاية العهد ووزارة الداخلية.
كنت أحيل كل سؤال يردني من تلك الأسئلة لا إلى المنطق، ولا إلى قراءات تحليلية، بل أحيله إلى ما يقوله الشارع وما يقوله الناس، فلقد كان لدى كل السعوديين جواب واحد وتوقع واحد. هذا ليس ملمحا عاديا ولا عابرا، فحين يمتلك الشارع إجابات صحيحة وقراءات حقيقية لما ستكون عليه التحولات والتغيرات في المناصب القيادية فذلك يشير إلى أمر غاية في الأهمية، وهو أن نظرة المجتمع للأسرة الحاكمة يطغى عليها كثير من الفهم والشراكة والاستيعاب، إذ لا توجد كواليس ولا أحجيات في مؤسسة الحكم السعودي. ولست بحاجة إلى مصادر من داخل القصر أو مصادر من المقربين من القرار لتدرك ما الذي يتم الإعداد له، بل ثمة حالة من الوضوح المشترك بين الشارع وبين القيادة تجعل الإجابات أكثر من الأسئلة، وذلك أحد أبرز وأهم عوامل الاستقرار في الحياة السعودية. لماذا لا يمثل غياب ورحيل شخصية قيادية عن المملكة العربية السعودية سؤالا يدعو للقلق والخوف على المصير والاستقرار والسيادة؟
التاريخ السعودي يحمل جوابا واضحا ومؤثرا عن السؤال. فالسعوديون لا يتعاملون مع أبناء الملك عبدالعزيز على أنهم عبارة عن طبقة حاكمة ذات أسرار وأفكار تدار خلف أبواب مغلقة، بل هم جزء من النسيج الاجتماعي والثقافي للسعودية. وذلك الاقتراب الكبير منذ وفاة الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن، طيب الله ثراه، والذي وكما أرسى واقعا وطنيا جديدا في الجزيرة العربية، أرسى في الوقت ذاته مؤسسة للحكم، وفق منطق الشرعية الملكية، التي واصلت مسيرتها ومرت بظروف وتقلبات سياسية في المحيط العربي المجاور لها، حيث أدت تلك التقلبات السابقة، وتحديدا في فترة صعود التيارات العروبية إلى تفكيك كيانات، وتغييرات كبرى في كيانات أخرى. كل الدول التي انهارت منظومتها السياسية في ستينات وسبعينات القرن المنصرم، كان ذلك بفعل هشاشة وضعف مؤسساتها السياسية، وبسبب قيامها على أفراد وليس على منظومة حكم متكاملة، ذلك التكامل والتماسك هو الذي حمى المؤسسة السياسية السعودية، وحمى هذه التجربة الوحدوية الرائدة، وحافظ على استقرارها وثباتها.
اليوم وفي ذروة هذه الأحداث التي تمر بها المنطقة العربية من تحولات أسقطت دولا وقسمت دولا أخرى ونسفت الاستقرار في كيانات سياسية ظلت مستقرة لعقود طويلة، نجد أن ثمة عاملا مشتركا في كل تلك الأحداث، وهو حالة التباعد الكبرى بين المؤسسة الحاكمة وبين الناس، وحالة الابتعاد الواسعة بين ما يعرفه الناس وما يفكرون به وما يطمحون إليه وبين ما تفعله المؤسسة الحاكمة. في تلك الدول تحول الحكم إلى مكائد وكواليس وأحجيات وألاعيب جعلت من الناس آخر اهتماماتها، وفصلت العلاقة مع الناس، ولقد أدى ذلك إلى حالة من الغربة الحقيقية التي لا يعرف الناس فيها شيئا عن الحكم ولا عن مؤسسته، خاصة أن كثيرا من الحكومات التي جاءت عبر انقلابات العسكر كرست خلال السنوات الماضية غياب شرعيتها من خلال ما صنعته من استبداد وانعزال بينها وبين الناس. على العكس تماما فالدول المستقرة تصبح قياداتها جزءا من الناس في وعيهم وفي فهمهم واستيعابهم بل والشراكة معهم، وتلك إحدى ضمانات الاستقرار.
في المملكة العربية السعودية، كل حزن يفتح بابا للطمأنينة، وكل مرحلة تمثل امتدادا واعيا للمرحلة التالية لها.. وحين تودع المملكة أحد أركان الحكم فإن ما يتبعه ورغم ألم الحدث من استقرار وانتقال واع وأمين لتلك المناصب يهب الحياة السعودية مزيدا من الطمأنينة ومزيدا من الاستقرار.