عبد الله بن بجاد العتيبي

شرعية الدولة السعودية شرعية راسخة متجددة، فالشرعية التاريخية تمتدّ لأكثر من ثلاثمائة عام، وشرعية التنمية والإنجاز أكثر رسوخا إن لناحية استمرار المنجزات وتعميق الرخاء، وإن لناحية مواجهة التحديات والثبات بوجه المحن، وإن لناحية التوفير الدائم لاحتياجات المواطنين، كما أن شرعية التطوير والإصلاح والتحديث قائمة، وشرعية فرض هيبة الدولة ونشر الأمان كذلك، والشرعية الدولية ممتدة بعلاقات دولية ثابتة ومستمرة.

كان الملك المؤسس (رحمه الله) في أواخر حياته، حين قفز بعض الضباط الأحرار إلى سدة السلطة في مصر، ولم يرحل عن الدنيا حتى كان قد أوكل مهام الدولة للأكفاء من أبنائه ومواطنيه، يواصلون المسير ويحفظون الأمانة، وظلت مصر ومعها الجمهوريات العربية الجديدة يعبث بسياساتها ومستقبلها (حينذاك) ثلة من الشباب الثائر من العسكر المتحمسين الذين ارتكبوا المغامرات وأثاروا الاضطرابات، وحين كانوا يخوضون في ذلك كله، استمرت السعودية في مسيرة من الاستقرار يشهد بها التاريخ.

أتى رحيل ولي العهد، الأمير نايف (رحمه الله)، مفاجئا وشديد الوطأة، فالسعودية تعيش واحدة من أكثر لحظاتها حاجة للتطوير المستمر سياسيا واجتماعيا لتثبيت دعائم التنمية المستدامة وبناء الأجيال، مع مجابهتها لمخاطر إقليمية شديدة الحساسية، حيث إيران العدو الإقليمي المتربص، وحيث أحداث سوريا المؤسفة التي اتخذت السعودية فيها مواقف متقدمة، وحيث تعيش بلاد الاحتجاجات العربية لحظات يكاد الشباب الثائر المتحمس أن يقودها مع عوامل أخرى نحو الفوضى المستدامة، ومع ذلك تظل قياداتها العاقلة تشرئب أعناقها للسعودية لتكون المنقذ والمنجد.

كان نايف رجل الملفات الصعبة في المملكة على مدى عقود، فلم يكن قرار المواجهة مع حركة جهيمان قرارا داخليا فحسب، بل كان قرارا سياسيا يستحضر شرعية الدولة داخليا وإسلاميا ودوليا، وقد اتخذه نايف وقاده بجدارة واقتدار، وكذلك فعل مع تحدّي التخريب الإيراني في الحج منتصف الثمانينات، وكذلك ما جرى حين احتلال العراق للكويت، وما أعقبه من صعود المزايدات الصحوية على القرار السياسي الذي ختمه باعتقال تلك القيادات حتى عادوا لرشدهم لاحقا، ثم بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) وتفشي مرض laquo;القاعدةraquo; كوباء، وحين واجهت السعودية واحدا من أكثر نشاطات الإرهاب وlaquo;القاعدةraquo; فعالية تصدى له نايف بكل جدارة وخلّص البلاد والعباد من الشرور بوعي استراتيجي ورؤية محكمة وظفر بالنجاح.

يقف التاريخ والواقع شاهدين على أن استقرار المملكة أمر راسخ وثابت، وأنها فوق كل الاضطرابات، وقد عبرت البلاد تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين كثيرا من الصعاب الداخلية والخارجية، ولم تصدق فيها يوما تخرصات المتخرصين ولا مزايدات المزايدين، فقبل عام ونيف، وحين وفاة الأمير سلطان (رحمه الله)، انتشرت الشائعات وتفشت التقولات، ولكنّ الملك عبد الله حسم خياره بإعلان نايف وليا للعهد، وجمع هيئة البيعة وأبلغهم بقراره، ومضت الدولة راسخة تتعامل مع كل التحديات بحكمة وروية مع رؤية سياسية متجددة تجاه كل الملفات، والأمر ذاته جرى اليوم بإعلان الأمير سلمان وليا للعهد ونائبا لرئيس مجلس الوزراء، واستمراره وزيرا للدفاع، والأمير أحمد بن عبد العزيز وزيرا للداخلية.

ما جرى بالأمس وما جرى اليوم يوضح بجلاء أن الدولة السعودية دولة مؤسسات، فحين يغيب قائد تبقى آثاره وإنجازاته شاهدة على عصره، ويبقى أثره الطيب فيها بعد رحيله، ولا يلبث قائد آخر أن يتسلم الراية ويواصل المسير.

يستغرب الكثير ممن يسمّون بالباحثين الغربيين المختصين في الشأن العربي أو السعودي، ويفعل مثلهم كثير من المنخرطين في الاحتجاجات العربية بشتى تشكلاتهم من مثل هذا الحزن السعودي لرحيل رجل دولة بحجم نايف، والارتياح العام لقدوم رجل دولة بحجم سلمان، ذلك أنهم بالغرق في الشعارات الرنانة لا يستحضرون مدى الشعور المجتمعي العام بمعنى استقرار الدولة واستمرارها، مع حجم الوعي الذي يدفع لاختيار الاستقرار السياسي على الفوضى التي يعلم الجميع أنها ستأكل الأخضر واليابس ولن تدع مجالا لإصلاح ولا مساحة لتطوير.

استمرارا لما سبق، وبعيدا عن المخاوف والتهويشات التي حاول إثارتها البعض خارجيا وداخليا، فقد تم انتقال سلس للسلطة السياسية، فاختار الملك بسرعة فائقة ولي عهده الجديد، وتم الإعلان الرسمي فتبخرت كل التخرصات كما تبخرت أمثالها من قبل.

ولي العهد الجديد الأمير سلمان بن عبد العزيز، رجل دولة من الطراز الرفيع، تقلّد في حياته الكثير من المهام الكبرى، وكان حجم المسؤوليات التي تولاها أكبر من مناصبه، وهو من حمل بجدارة حقيبة الدفاع، وهي من أهمّ الحقائب في السعودية لما يزيد على العام ونيف بكفاءة واقتدار، كما أنه رجل الدولة الكبير بتاريخه الإداري الطويل، وبقدرته الكبيرة على متابعة الكبير والصغير من المسؤوليات التي تقلدها.

يعرف الجميع أن الأمير سلمان رجل عملي يتابع عمله بكل دقة وفعالية ولا تلهيه كثرة المهام عن التواصل الدائم مع كل شرائح المجتمع ولا عن العناية بالأعمال الخيرية ولا عن متابعة الثقافة والإعلام، فهو يجمع في شخصه كثيرا من الصفات التي تجعله الرجل المناسب في المكان المناسب.

لقد راعى الملك مصلحة الدولة والمجتمع بتعيين ولي عهده الثالث، ليكون خير عضد له في متابعة نهجه ورؤيته الإصلاحية التطويرية، ووقف كقائد يتحمل المصائب والرزايا الكبار ليضمن لبلاده مكانتها واستقرارها وأمنها ورخاءها، فاختار عضدا خبيرا يعي ثقل الأمانة وحجم المسؤولية الملقاة على عاتقه.

لقد اندمجت أعداد من المثقفين العرب في ثورات الشباب العسكر في الخمسينات وما تلاها، وبرروا لها كل فظائعها ومغامراتها وفوضاها قبل أن يتخلى بعض عقلائهم عنها لاحقا، وها هو المشهد يعيد نفسه مع الشباب الثائر في دول الاحتجاجات حيث اندمج معهم عدد من المثقفين في البداية ثم عاد قلة منهم لوعيهم، بعد لأي. ذلك أنهم لم يقتربوا من النموذجين الثائرين إلا بقدر ما تنازلوا عنه من وعيهم وثقافتهم، والثابت في المشهدين على مر عقود هو أن الأنظمة الملكية العربية كانت دائما أرحم بشعوبها وأقرب إليها وأكثر إنجازا ورخاء من جمهوريات العسكر المتوحشة، وبالتأكيد هي خير من الفوضى.

مضت السعودية منذ الملك عبد العزيز حتى الملك عبد الله في مسيرة مستمرة من الاستقرار والتطوير والاعتدال في القرارات الداخلية والخارجية جنّبت الدولة والمواطنين كل مغامرات الآخرين وشعارات المتحمسين، وركزت على الوطن والمواطن.