سليمان تقي الدين

كانت سوريا دولة صلبة شكّلت نواة لمشروع المملكة العربية بعد الثورة الكبرى العام ،1916 وقاوم شعبها محاولات الانتداب تقسيمها إلى دويلات طائفية، وظلت تتطلع إلى وحدة بلاد الشام . خلال نصف قرن ظلت سوريا داخل حدود سايكس- بيكو لكنها أقامت نظاماً مركزياً شديد الوطأة رغم اتساع جغرافيتها وتنوع مكوناتها ونزاعاتها الجهوية .

في مطلع القرن الواحد والعشرين انكسر دور سوريا الإقليمي فخسرت دورها في لبنان وفلسطين، وشهدت أشكالاً من المعارضة السياسية الداخلية ومن محاولات الضغوط الخارجية على سياستها .

انفجرت الأزمة السورية، فإذاً، نحن أمام مشهد جديد يطالعنا كل يوم بأسماء محافظاتها ومُدنها وقُراها ومكوناتها الطائفية والعرقية . ما لم نكن نعلمه عن سوريا صار شائعاً عن مجتمع متنوع لا يختصره حاكم أو حزب أو مؤسسة أو دولة . صارت سوريا أقاليم وساحات للمواجهات الأمنية وأحزاباً وقيادات وتيارات كانت مكبوتة وغير مرئية .

بعد أكثر من عام على الأزمة تتجه الأنظار إلى عقد مؤتمر دولي عن سوريا لحل مشكلتها على أنها مشكلة نزاع إقليمي ودولي من جهة، ومشكلة انقسامات سياسية ووطنية وجبهات عسكرية . كانت سوريا تمثل الاحتياط الإقليمي الذي يمكن الاستعانة به لحل بعض مشكلات الجوار، فتحولت فجأة إلى دولة ضعيفة غير مستوفية الشرعية لنظامها، رغم تماسك جيشها ومؤسساتها المدنية الرسمية .

يشكل المؤتمر الدولي أكثر شكل من أشكال التدخل الخارجي في السياسة الداخلية، هو وصاية دولية أبعد من قرار يصدر عن مجلس الأمن لمعالجة شأن من شؤون النزاع . سوريا اليوم مطروحة على جدول أعمال الدول الكبرى ودول الجوار وكأنها مائدة لترتيب علاقات هذه القوى ومصالحها المتضاربة . لا يعترض النظام السوري على دعوة حليفه الروسي إلى مثل هذا المؤتمر، ويرتب الروس الصلات مع إيران وتركيا وبعض الدول العربية الفاعلة ويدعون أمريكا وأوروبا إلى هذه المائدة كما يدعون النظام والمعارضة للجلوس وجهاً إلى وجه .

لأول مرَّة يصبح الحديث عن سيادة سوريا وأمنها القومي واستقلالها خارج الثوابت والأولويات . ليس المؤتمر الدولي مطروحاً لحل النزاع السوري التركي مثلاً أو السوري مع الكيان الصهيوني، بل لمعالجة دولة دبّت فيها الفوضى والانقسامات ولا يريد نظامها إجراء مصالحة وطنية شاملة مع شعبه .

لا شك في أن المؤتمر الدولي يوحي أو يدل على الصراع العالمي على موقع سوريا الاستراتيجي وعلى دورها في النظام الإقليمي الذي سيتشكل من هذه الصراعات . لكن لا أحد يطرح اليوم مؤتمراً دولياً لقضية فلسطين أو العراق أو ليبيا أو سواها، فقط سوريا هي الدولة الرخوة المطلوب إعادة السلم والاستقرار إليها .

قد يجد أطراف النزاع الداخليون فرصتهم في ذلك، فرصة الاعتراف بالمعارضة والاعتراف بعد سقوط النظام . لكن النظام الذي يقبل فكرة المؤتمر الدولي يقبل بوضوح كونه لم يعد يمثل كامل الشرعية الشعبية ولا يستطيع أن يستعيد سلطته على كامل أراضيه، ولا أن يوقف أعمال العنف ولا أن يمنع الفوضى .

تعني فكرة المؤتمر الدولي أن الشرق والغرب بصدد تسوية مصالحهم واقتسام نفوذهم في سوريا وربما أبعد منها . فالدور الروسي الذي اقتحم المسرح الدولي بهذا الشكل القوي يريد ما هو أبعد من الحفاظ على نظام حليف أو دولة حليفة . انطلق من سوريا نحو ترتيب مصالحه الاستراتيجية في آسيا، المصالح الأمنية والمصالح الاقتصادية . أما الغرب فهو أيضاً لا يفاوض على سوريا ولا على نظامها كي يكون ديمقراطياً، بل من أجل منظومة إقليمية يريد ترتيبها تمتد إلى إيران والكيان الصهيوني وتمر عبر تركيا إلى وسط آسيا، والحدود التي يمكن أن يرسمها الأمن الدولي على حدود الصين وروسيا .

من المفهوم تماماً أن تجري لعبة الأمم على هذا النحو ومن المفهوم أيضاً أن دولاً إقليمية لها مطامع في النفوذ وفي البحث عن شراكة في النظام الدولي تستسيغ هذه اللعبة . لكن سوريا لم تعد لاعباً على هذا المسرح وأصبحت رقعة جغرافية قد تشكل نقطة اتصال بين هذه المصالح أو نقطة انفصال وصدام . وحده الشعب السوري يدفع ثمن هذه السياسات التي لا تصرف قومياً أو إنسانياً .