فؤاد مطر

ليست أحوال الأمتين حاضرا أفضل مما كانت عليه في الزمن الذي أسس فيه الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود المملكة العربية السعودية. بل إن أحوال الزمن الحاضر أكثر سوءا من تلك التي كانت قبل التوحيد عام 1932 فما عادت التسمية laquo;مملكة الحجاز ونجد وملحقاتهاraquo; بعد مبايعة النجديين للملك عبد العزيز عام 1927 وإنما laquo;المملكة العربية السعوديةraquo;. وعند استحضار بعض الأحداث وأساليب هيمنة الدول الكبرى على المنطقة وتحويل أقطار منها إلى ميادين صراعات سياسية لا تلبث أن تتطور إلى مواجهات فإلى حروب أحيانا بين قطبين وفي معظم الأحيان بالوكالة بمعنى أن يتم تحويل أطياف أو طوائف إلى أعداء يقاتل بعضها بعضها الآخر، نجد أن الذي جرى في الزمن الغابر هو في بعض جوانبه مثل الذي يجري في الزمن الحاضر ونجد مسحة كبيرة من بعد النظر في صيغة للاستمرارية اتسم بها النهج الذي اتبعه الملك عبد العزيز في استكمال إرساء التأسيس الأول وهذا جعل المملكة العربية السعودية تصمد أمام الإعصارات المتتالية، وذلك من خلال الصيغة التي تحقق الانتقال الهادئ للقيادة الخالي من المفاجآت والتكهنات والاستطلاعات والمغامرات غير المحسوبة والاعتصامات التي تدفع باستقرار الوطن نحو المجهول. وفي المشهد العربي الراهن عموما سواء المتحرك منه أو النائم إلى حين، الدليل على ما نقوله.

كما نجد استحضار رجاحة ما في كتاب الله وأحاديث رسوله (صلى الله عليه وسلم) والصحابة من آيات بينات وأقوال طيبة حول التواضع والعطاء والعفو والتسامح والعمل والعقاب والقصاص والعلم والشجاعة والشرف والتضحية والشهادة والشيخوخة والشباب والضمير والخبث والطمع والطموح والمشورة والحياة الدنيا والآخرة والواجب والخير والشر والرضا والسلاح والتنمية والغنى والفقر والفضيلة والعيب والقناعة والقوة والتراحم والعدالة والثقافة والفكر وكذلك التبصر والتأمل والإصغاء إلى الشكوى من شكاة وإلى الفكرة تأتي من أصحاب الرأي السديد، تشكل في مجملها صراط الصلاح المستقيم والإصلاح الشامل لمن يحتاج ومن يريد. وأتصور أن ألوف البيوتات العربية والإسلامية في دول ينام فيها المواطن على خبر دموي ويصحو على خبر تخريبي وتدميري ويندم بالتالي على ابتهاجه المتعجل laquo;فورةraquo; اعتبروها laquo;ثورةraquo;، أو على بيانات أو تصريحات تستبق كلمة أهل القانون في إعلان نتائج انتخابات، وعلى ارتباكات في الأسواق والبورصات ناشئة عن مليونيات طالما شعر البعيد كما القريب بالملل من تكرارها ومن الشعارات والممارسات التي تحدث في ساحات الاعتصام والتجمهر.. أتصور أن ألوف البيوتات وبالذات كبار السن والراجحة عقولهم من رجال ونساء انبهروا وهم يتابعون الانتقال السلس والمحترم في المواقع القيادية والذي امتزج الحزن فيه على من يرحل بالمسرة إزاء من يخلف. وكيف أن عفوية المبايعة هي استفتاء يختلف عن الاستفتاءات إياها ذات التسعين في المائة وما فوق، وأن هذا الاستفتاء يتمثل بتصريحات وإشادات ومراثٍ من كتاب وشعراء نبطيين أحدهم الأمير نواف بن فيصل بن عبد العزيز أو مسؤولين، وصفحات ترحيب إعلانية تتمحور حول خير خلف لخير سلف وكيف أن الأسى على ولي العهد الراحل الأمير نايف بن عبد العزيز التقى مع الابتهاج باختيار الأمير سلمان بن عبد العزيز لكي يواصل كولي للعهد مسيرة شقيقين ودعهما بدمعة حزن شبيهة بتلك الدمعات التي انسابت من مقلتيه على شقيق الجميع الملك فهد وعلى الابنين البارين فهد ثم بعد سنة أحمد اللذين كانا بارين كما حال والدهما الأمير سلمان مع والده المؤسس طيب الله ثرى الجميع وثرى الزوجة الكريمة أم فهد وأحمد وسلطان وعبد العزيز وفيصل وحصة. ومع تصور المشهد الذي أشير إليه أفترض أن هذا الأب أو الأم وهذا الجد أو الجدة في تلك البيوت العربية يقول كل منهم: يا لنعمة الاستقرار لدى إخواننا أهل المملكة وبالذات في ربع القرن العربي الأكثر خطورة. تشاء إرادة الله أن يرحل الملك فهد الذي كان مالئ الدنيا العربية إقداما وحسن تطوير فيتسلم القيادة ولي عهده عبد الله بن عبد العزيز الذي أضفى على الصيغة التي ارتآها الوالد المؤسس نهجا لا يتسبب معه الرحيل بأي عثرات، ويرحل ولي عهده الأمير سلطان بن عبد العزيز فيأتي اختيار الأمير نايف لولاية العهد بالسلاسة إياها التي عليها الصيغة، ويرحل الأمير نايف فيأتي اختيار الأمير سلمان ويستحضر أبو فهد في مفردات تصريحاته الأولية الشقيقين الغائبين الحاضرين أبو خالد وأبو سعود كما يفيض وجدانه استحضارا لكبير الأشقاء أبو فيصل، والثلاثة كان الأمير سلمان مواكبا لا يهدأ له بال لأحوالهم الصحية ملبيا خير تلبية توجيهات ولي الأمر عبد الله بن عبد العزيز الذي رأى أن الأمير سلمان كرئيس لمجلس العائلة ينوب عنه في رعاية الشقيق إلى أن يبرأ وتخفيف أعباء المسؤولية الاستثنائية عن كاهل والد الجميع.

وفيما الأرض السياسية تهتز لدى دول عربية عدة ولا تنقطع المجادلات العقيمة في شأن من يترأس هنا؟ وهل أن الذي يترأس هناك يجب أن يبقى؟ ومتى يرحل المترئسون هنالك.. وهكذا، ومع اهتزاز الأرض السياسية وما يرافق ذلك من دم يراق على جوانب أطيافها وطوائفها وكرامات تنتهك بأقذع المفردات ويرتفع منسوب القلق على الحاضر والخوف من المستقبل، يواصل الاستقرار مسيرته في المملكة ويؤدي أهل المسؤولية الجديدة الذين تم اختيارهم واجب تقبل التعزية فيمن رحل وفي اليوم نفسه أو الذي يليه واجب التهنئة بالمسؤولية الجديدة وتعم النفوس طمأنينة، ما أحوج المواطن المغلوب على أمره في دول عربية عدة إلى مثل هذه الطمأنينة التي يغبط شقيقه السعودي عليها.

لولا متابعتنا على مدى أربعة عقود لمسيرة الأمير سلمان بن عبد العزيز وكيف يدير شؤون laquo;دولة الرياضraquo;، أو فلنقل إمارة بحجم دولة، على هدى تثقيف فكري - ديني - عروبي - إسلامي مستحضرا في كل خطوة يخطوها والده، وكذلك كيف أن أبواب ديوانه ليست موصدة أمام أحد، وكذلك أيضا كيف أن أهل القرار العربي والإسلامي والدولي عندما يزورون المملكة شديدو الحرص على أن يصغوا إليه كرمز للمستقبل السعودي وكرجل دولة يعينهم الوقوف على رؤيته، كما أنهم يحرصون على أن يزورهم في دولهم وتكون الزيارة والمحادثات استكمالا لرؤية الأمير يبنون في ضوئها سياسات أو يعدِّلون أفكارا... إننا لولا هذه المتابعة التي تشمل أعمال خير نوعية ترفع من معنويات المحتاجين إليها وبالذات ذوو الحاجات الخاصة، ولولا التواضع والحرص على عدم التقصير إزاء أي محنة إنسانية عربية وإسلامية من فلسطين إلى قلب أوروبا وبصرف النظر عن الظروف السياسية، كما الحال مع إخواننا قادة العمل الفلسطيني، لكان قلقنا كمحبين ومقدِّرين للأمير سلمان كبيرا. إلا أن الرجل صاحب تجربة غير مسبوقة بهذا الشمول وشكَّلت روافدها ما يجوز معه اعتبار laquo;السّلْمانيةraquo; مدرسة لطالما رفدت المجتمع السعودي بمتأثرين بها. بل حتى يجوز القول إن رفيق الحريري کـlaquo;رجل أعمالraquo;، والذي طالما كنا كإعلاميين مثله من زوار ديوان الأمير سلمان، اكتسب من أسلوب أبو فهد في إدارة شؤون الناس ومن تواضعه ومن متابعته ومن نخوته ومن نوعية اهتماماته فيما يتعلق بالعلم وأعمال الخير ما جعله يتأهل لكي يترأس حكومة تعيد إلى لبنان رونقه وهو رونق لم تكتمل مراحله بعدما استشهد، كونه وافدا نزيها ومنزها على مجتمع ميليشياوي laquo;محروسraquo; من شقيقة حاسدة وشقيقات ثوريات مستهترات بالخصوصية الوطنية والسيادات. ومن كان يتحلى بالصفة المتعددة الجوانب لجوهر أولويات laquo;السَلْمانيةraquo; التي هي مدرسة للمعرفة السياسية المتزنة والواقعية في زمن الانفعالات والخطوات غير المحسوبة التي طالما أوقعت كثيرين في شر رهاناتهم، لا يعود القلق عليه من الإعصارات المتتالية التي تعيشها المنطقة كبيرا. لكن الخشية تبقى في أي حال واردة ومشروعة. فالأمير سلمان يتولى المسؤولية المتقدمة فيما المشهد العربي والإسلامي مدعاة للرهبة. أمامه مصر المأزومة كما لم تتأزم بهذا الشكل من قبل والمؤمل في ضوء حل معضلة ملء فراغ رئاستها بالإخواني الدكتور محمد مرسي انفراج تأزمها وهذا ما يثلج قلب الأمير سلمان الذي يحبها كما الشقيق الغائب الحاضر سلطان بن عبد العزيز، والتي كانت لو طالت المواجهة وتطورت الأمور في زمن العدوان الثلاثي عليها عام 1956 ستجد أن الشقيقين اليعربييْن سلطان وسلمان بين المتطوعين دفاعا عنها. وأمامه لبنان الدائم في خاطره والذي وصل الحال فيه إلى أنه أشبه بقارب laquo;اتفاق الطائفraquo; يحاول جاهدا الإبحار إلى شاطئ الأمان متخطيا عاصفة لا ترحم ولا يقتنع أصحاب هذه العاصفة أن من يحفر الحفرة لأخيه يقع فيها. وأمامه السودان الذي لا تصدق الأمة، كيف أن laquo;الإنقاذraquo; وlaquo;الإنقاذيينraquo; تسلَّموه لحما وعظما ثم ها هو جسد صريع الهزال بعثروه شر تبعثر يحاول كبير زعمائه الشعبيين الصادق المهدي إنقاذ ما سيكون من المستعصي إنقاذه وتحت مطلب أساسي يتلخص في عودة السودان إلى أهله، أي إليه وإلى أحزاب نالت في منتصف الستينات فرصة أن تحكم فيما لم يستقر قادتها على رأي فتصدى لهم الجنرالات وجعلوهم كعصف شبه مأكول. وأمامه البحرين المستضعفة من إيران الاستكبار والاحتلال لجزر الإمارات، والكويت التي يدفع بها بعض زعاماتها إلى هاوية التأسلم وlaquo;الدينوقراطيةraquo; متناسين تراثها الديمقراطي العلماني بتفهم الإسلامي بخشوع. وأمامه دول الجناح المغاربي من الأمة التي أحوالها في علم المجهول. وأمامه اليمن الذي هو بين حسم الأمر وعدمه مما يعني أنه مثل المتعنت الذي أراد السباحة من شاطئ إلى شاطئ مقابل وعندما اجتاز نصف المساحة شعر بإجهاد ثقيل ولذا فهو لا العودة ممكنة ولا مواصلة السباحة متيسرة. وأمامه العراق يا لسوء حظ بلاد الرافدين من الذي جرى لها ولما يجري فيها والمرشحة لأن تصبح جمهورية متعددة الروافد السياسية الطائفية وليس المائية. وأمامه الأردن الذي ملكه لا هو مع الثوريين بتوافق ولا مع الإسلاميين بتهادن ولا مع laquo;الأردن الفلسطينيraquo; بالأمان المطلوب.

تلك هي أحوال الأمة التي تنتظر الرأي السديد والحكيم في إصلاح الحال وذات البين وهذا ما بدأه الملك عبد الله بن عبد العزيز مسترشدا بما فعله الوالد المؤسس من قبل حيث لم تثنه أحوال المنطقة زمنذاك على أن يؤسس بما يحقق الاستمرارية والاستقرار وبما يُسعد الناس، وبصرف النظر عما إذا كانت تطلعات هؤلاء دون ما تستوجبه متطلبات الاستقرار. وطوال خمس سنوات كانت الظروف الصحية حاضرة في المشهد القيادي السعودي وكان الرحيل المتتابع في فترة زمنية قصيرة لركنين أساسيين في القيادة ولي العهد الأمير سلطان ثم ولي العهد الأمير نايف. وكانت الظروف التي نشير إليها هي التي جعلت على ما يجوز الاعتقاد تقديم الانشغال بالتطورات العربية العاصفة على تسريع إنجاز خارطة طريق للاستمرارية وفق ما يشبه الدستور بتسمية نظام laquo;هيئة البيعةraquo;. ومن الجائز الافتراض أن وجود الأمير سلمان في المقام الجديد وليا للعهد سيكون ملء فراغ في عملية نظام تفعيل الهيئة، وأنه سيكون الساعد والمساعد لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في رسم معالم الإشراك المتأني للأصلح من جيل أحفاد الملك عبد العزيز الذين تقع عليهم مسؤولية أن يكونوا في مرحلة التأسيس الثاني للمملكة عند حسن الظن بهم من شعب المملكة ومن شعوب الأمتين التي تتأمل ما يحدث في السعودية وكيف أن الاستقرار يلازم الرخاء وكلاهما يسود في ظل الأمان والأمن.. وتتمنى لو أن الشيء نفسه يحدث في دولهم.