مالك التريكي
في سبح طويل وشجاع ضد التيار الذي كان سائدا في العلوم الإنسانية ذات التوجه الماركسي، والذي كان يغلّب العامل الطبقي على العامل القومي، عمل المفكر الراحل البروفسور أنور عبد الملك على إعادة تشكيل النظرية الاجتماعية على أساس تفاعل المجتمعات في الشرق والغرب وعلى أساس تجاوز ما يسمى بإشكالية الأصالة والمعاصرة. حيث دأب منذ الستينيات على القول بأن الركيزة الأساسية في التحليل الاجتماعي ليست الطبقة وإنما هي الأمم، أي المجتمعات القومية الثابتة عبر التاريخ. ولهذا كان يعتقد، مثلما بيّن في كتابه الهام 'الجدلية الاجتماعية' الصادر بالفرنسية عام 1972، أن الأمة هي قوام الاستمرارية الاجتماعية وأن العصر لن يشهد، آخر الأمر، إلا مزيدا من ترسيخ العامل القومي. نبوءة باكرة تحققت على نحو مشهود إبان سقوط المعسكر السوفييتي- هذا السقوط الذي صح فيه وصف الكاتب الفرنسي ألان منك بأنه 'ثأر القوميات' من الإيديولوجيات.
كان أنور عبد الملك يرى في الصين النموذج الأمثل للأمة العريقة الموحدة المتصلة على مر الدهور. إذ رغم أن الحضارة المصرية أوغل في الزمن، فإنها قد مرت بمراحل ثلاث من الفرعونية إلى القبطية فالعربية الإسلامية. أما الصين، فإنها الحضارة الوحيدة التي حافظت على ذات الإطار المعرفي، الإيماني، المفهومي واللغوي منذ خمسة آلاف سنة، 'من أول امبراطور حتى آخر أباطرة الفلاحين في قيادة الحزب الشيوعي'، حيث أن البعد الاشتراكي قد انصهر في صلب المرجعية الكنفوشية ولم يغير راسخ المفاهيم. وقد كان لانجذاب أنور عبد الملك الباكر إلى الصين أسباب. أولها تنشئته على فكرة أن العصر الحديث، منذ عهد محمد علي في مصر، هو عصر نهضة الشرق بمعناه الأوسع. وثانيها تحمسه للثورة الصينية منذ قرأ عام 1942 كتاب 'النجم الأحمر فوق الصين' للصحافي الأمريكي ادغار سنو، فصار مؤمنا أنه لو نجحت الثورة الصينية في تحرير 'نحو ربع الإنسانية من مهانة الغزوات والاحتلال والتهميش' (الأمر الذي حدث فعلا عام 1949) فإنها سوف تغير أوضاع العالم بأسره. أما ثالث الأسباب، وهو أعمقها، فهو تعرفه عام 1965 على الأكاديمي البريطاني جوزيف نيدهام الذي توثقت علاقته الروحية به حتى أن أنور عبد الملك يقول عنه إنه 'المؤثر الأساسي 'الذي أغنى مساره الفكري 'بشكل لا يضاهى'.
كان نيدهام إمام العارفين بالصين في الغرب. أشرف في جامعة كمبردج على مجموعة بحثية وضعت موسوعة ضخمة من 29 مجلدا بعنوان 'العلم والحضارة في الصين'. عندما يذكره أنور عبد الملك يصفه بأنه رجل مؤمن واشتراكي، ثم يترحم عليه ويقول إنه 'كشف أمامي أكذوبة أن التطور العلمي والنهضة غربيان'. شاهد أنور عبد الملك كيف تمكنت الصين، بقواها الذاتية، من استئناف مسيرتها الحضارية وكيف انطلقت من أبسط المبادىء - 'التعلم من الواقع'- لتحقيق أبهر النهضات. صارت علاقته بالصين وجدانية وبلغ من شغفه الجارف بها أنه ظل مواظبا على قراءة دورياتها الأكاديمية ومتابعة إنتاجها الفكري. لذلك فإن من ملاحظاته الثاقبة، مثلا، أن النخبة الثقافية الصينية ضربت عن نظرية صدام الحضارات صفحا، بينما استنكرها كثير من المثقفين العرب وبذلوا في دحضها جهدا. والرأي عند أنور عبد الملك أن لهذا التجاهل الصيني لنظرية هانتنغتون سببين: الأول أن النخبة الصينية تؤمن أن ما يعتدّ به حقا إنما هو العمل الفعلي على تغيير واقع العلاقات الدولية، دون خوض معارك وهمية. السبب الثاني هو أن هانتنغتون لم يتجاوز تقرير واقع قائم: إذ إنه قال إن الحضارتين الإسلامية والكونفوشية هما مصدر الخطر على الغرب لكنه لم يتهمهما بشن حرب حضارية عليه، بل إنه قال إننا نحن الذين سنشن عليكم حربا حضارية. أي أنه تلا بيان السياسية الحضارية الغربية كما هي مطبقة فعلا. ويضيف أنور عبد الملك، شارحا، أن سبب حصر هانتنغتون مصدر الخطر على الغرب في الدائرتين الإسلامية والكونفوشية هو أن في كل منهما 'منظومة قيميّة يصعب اختراقها'...
كان أنور عبد الملك مؤمنا بأن من واجب العرب وصالحهم أن يتعلموا من الصين لأنها نموذج التفوق في 'التعلم من الواقع'. كان مفتتنا بهذه الحضارة العلمية التي نجحت في تحقيق أعظم نهضة سلمية. لديها وجد تفسير 'التناقضات بين مقام الدول وأوضاع الشعوب'، ومنها عاد بجواب تطبيقي عما إذا كان 'هناك مفتاح لبلوغ العدالة والكمال'.
- آخر تحديث :
التعليقات