محجوب محمد صالح

احتفل جنوب السودان يوم الاثنين الماضي بالعيد الأول لانفصاله من دولة السودان وتأسيس دولته المستقلة بعد أن صوت مواطنوه بأغلبية تقارب الإجماع في استفتاء تقرير المصير لصالح الانفصال، وهو الحق الذي منحته لهم اتفاقية السلام الشامل الموقعة بين الطرفين في العاصمة الكينية نيروبي مطلع يناير 2005م، وتجيء هذه الاحتفالات في ظروف بالغة التعقيد وتحديات عظيمة تواجه الدولتين ndash;الدولة الأم والدولة الوليدة- وجاءت أحداث ما بعد الانفصال موحية بفشل اتفاقية السلام في تحقيق أهدافها الرئيسة، ولذلك كانت الاحتفالات محدودة وهادئة ومتواضعة والكل يستشعر خطورة المأزق الذي تعيشه الدولتان.
اتفاقية السلام أسست لفترة انتقالية مداها ست سنوات (2005-2011) يتمتع خلالها جنوب السودان بوضع فيدرالي داخل الدولة السودانية كان في حقيقته أشبه ما يكون بالنظام الكونفيدرالي؛ لأن الاتفاقية منحت الجنوب من السلطات ما يقرب كثيراً من سلطات الدولة المستقلة، فقد كان للجنوب برلمانه وحكومته الإقليمية المستقلة التي لا تملك الحكومة الاتحادية أي سلطة عليها، وهي مسؤولة مسؤوليةً كاملة عن إدارة الإقليم بكامله وضمن لها الاتفاق مورداً مالياً ثابتاً يتمثل في نصف إيرادات النفط المستخرج من الإقليم الجنوبي، إضافة لنصف حصيلة الضرائب الاتحادية المتحصلة في الجنوب مثل الرسوم الجمركية وضريبة الأعمال ومنحت الاتفاقية الحركة الشعبية الحق في الاحتفاظ بجيشها بكامل قوته، كما منحت الحكومة الإقليمية الحق في إنشاء مكاتب اتصال في شتى أنحاء العالم أشبه ما تكون بالسفارات، وفوق هذا وذاك يشارك الجنوب بنسبة تقارب الثلث في الحكومة الاتحادية وفي البرلمان الاتحادي، ويتولى رئيسه منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية ويتمتع بحق (الفيتو) لنقض قرار رئيس الجمهورية في قضايا معينة.
هذا الوضع الذي رسمت معالمه اتفاقية السلام الشامل كان مصمماً بحيث يقنع أبناء الجنوب بوحدة السودان حتى يصوتوا لصالحها عند تقرير المصير والتزم طرفا الاتفاقية بأن يعملا معاً لجعل وحدة السودان خياراً جاذباً للمواطن الجنوبي ndash; لكن اتفاقية السلام الشامل لم تكن في حقيقتها على ذلك القدر من الشمول الذي تدعيه، فهي لم تكن شاملة لا شكلاً لا موضوعاً، من ناحية الشكل فهي جاءت نتيجة تفاوض سياسي بين فصيلين سياسيين (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية) في غيبة كل القوى السياسية الأخرى ndash;لقد كانت اتفاقية (ثنائية) أدت إلى قيام (حكم ثنائي)ndash; أما من ناحية الموضوع فهي لم تحاول أن تعالج أزمة السودان الشاملة التي كان يعيش في كنفها الوطن آنذاك واختصرت هذه (الأزمة الشاملة) في أزمة العلاقة الشمالية الجنوبية مع أنه ساعة توقيعها كانت هناك حرب مستعرة في إقليم دارفور في غرب السودان، واحتقان حاد في شرق السودان ووسطه، وصراع سياسي محتدم مع المعارضة.
ورغم كل هذا الخلل فإن القوى السياسية المختلفة التي لم تشارك في صناعة الاتفاقية رحبت بها على أمل أن تحقق ثلاث أهداف أساسية هي:
أولاً: السلام بعد حرب شمالية جنوبية عاش معها السودان منذ استقلاله، فعانى منها طويلاً، وظلت مستعرة أربعة عقود من الزمان أنهكت البلاد وبددت مقدراتها المالية والبشرية.
ثانياً: جعل الوحدة أكثر جاذبية للمواطن الجنوبي، بحيث ينحاز لها طوعاً عند ممارسة الحق في تقرير المصير الذي كفلته له الاتفاقية في نهاية الفترة الانتقالية.
ثالثاً: أن تحقق تحولاً ديمقراطياً من نظام شمولي فرض نفسه على البلاد، وكتم أنفاسها وتحسبت له الاتفاقية، ولذلك احتوت على نصوص محددة لإنجاز ذلك التحول وجدت طريقها للدستور الانتقالي، ولكن الذي حدث كان عكس ذلك تماماً فالاتفاقية لم تنفذ كما ينبغي وواجه التنفيذ صعوبات منذ يومها الأول وتصاعدت حدة الخلافات ولم تتوفر الرغبة ولا الإرادة السياسية للوفاء بمستحقاتها، وتم التهرب من تنفيذ كثير من بنودها، ولم يتم الالتزام بالجدول الزمني الذي يحدد مواقيت إنجاز تلك المهام، فتأجلت قضايا هامة وظلت عالقة ndash;فلم ينفذ برتوكول أبييndash; ولا برتوكول جنوب كردفان والنيل الأزرق، ولم يتم الالتزام بوثيقة الحريات، ولم ينجز الإصلاح القانوني ولم يتم ترسيم الحدود ولا إجراء المشورة الشعبية، ولا تحقق مبدأ المشاركة في السلطة.
لم يكن مستغرباً تحت هذه الظروف أن تنهار الأسس الثلاث التي أرادت الاتفاقية تحقيقها ndash;السلام والوحدة الطوعية والتحول الديمقراطي- وأن يقع الانفصال، وتستمر الشمولية وتتسع رقعة الحرب، ويتصاعد الاحتقان السياسي لا في الشمال وحده، بل وفي الجنوب أيضاً، وأن تشتعل الحرب المباشرة والحرب بالوكالة بين الدولتين.
إن الوضع اليوم أسوأ مما كان عليه قبل توقيع اتفاقية السلام الشامل لأن الحرب الآن لم تعد حرب عصابات داخلية في وطن واحد ولكنها باتت حرباً نظامية بين دولتين متجاورتين، وفي الوقت نفسه تواصلت الحروب الداخلية في كلا البلدين واتسعت نطاقاً، السودان يواجه الحرب الآن في كل من النيل الأزرق وجنوب كردفان إضافة لإقليم دارفور بولاياته الخمس والجنوب تدور فيه حروب قبلية كارثية في أعالي النيل وبحر الغزال- وفوق هذا وذاك تعيش الدولتان في أخطر الأزمات الاقتصادية التي تلقي بأعباء غير محتملة على كاهل المواطنين، فلا غرو أن جاء الاحتفال بالاستقلال هادئاً ومتواضعاً.
هذا أوان الوقفة الصادقة مع النفس ndash;نحن في الشمال يتعين علينا أن نضاعف البحث عن مشروع وطني جديد ndash; يتعين علينا أن نعود إلى منصة التأسيس لنعيد تأسيس الدولة السودانية في مساحة أصغر وسكان أقل ولكن على نهج يستوعب كل تجارب الماضي التي أوشكت أن تؤدي إلى فشل الدولة وبقواعد جديدة تقوم على السلام والديمقراطية والعدل والإنصاف والحكم الراشد وسيادة حكم القانون والتبادل السلمي للسلطة ورعاية حقوق الإنسان وتحقيق التنمية المتوازنة المستدامة واحترام تعددية أهل السودان ndash; فذلك هو طريق الخلاص الوحيد المتاح لنا والجنوب أيضاً، مطالب بالبحث عن مشروع مشابه.