تركي الدخيل

أخذت الدول التي مرت بما أُطلق عليه ldquo;الربيع العربيrdquo; خياراتٍ متعددة في انتخاباتها. في تونس ومصر صعد الإخوان بكل قوة إلى سدة الحكم. لم يكن للتيارات الليبرالية والمدنية أي حضور. قبل أيام تناولت صحيفة ldquo;فاينانشيال تايمزrdquo; البريطانية في افتتاحيتها النتائج الأولية لانتخابات المؤتمر الوطني الليبي، تحت عنوان ldquo;تقدم ليبيrdquo;. وشددت الصحيفة على أن ldquo;ليبيا ليست مثل جارتيها مصر وتونس، لا تنشغل بترف تلك المناقشات الطويلة عن دور المرأة في المجتمع أو الدور السياسي للدين، بل جل ما يشغلها بشكل ملح هو استعادة الأمنrdquo;. ولا عجب أن يندهش العالم بالاختيار الاجتماعي الليبي، ذلك أن نتائج جزئية كشفت عنها المفوضية العليا للانتخابات في ليبيا أن التحالف الوطني المعتدل بزعامة رئيس الوزراء السابق محمود جبريل حقق انتصاراً ساحقاً على الأحزاب الإسلامية المنافسة في أول انتخابات حرة في البلاد منذ أكثر من 40 عاماً، وكشفت عمليات إحصاء الأصوات في شتى أنحاء البلاد عن هزيمة مدوية للجناح السياسي للإخوان المسلمين في ليبيا في اتجاه مخالف للنجاح الذي حققته الجماعات الإسلامية في بلدان عربية أخرى من دول الربيع العربي مثل مصر وتونس. الخيار الليبي ينطلق -ربما- من ملله من النموذج الذي يمثله القذافي حيث الانغلاق وكبت الليبيين وعزلهم عن حركة العصر والعالم، وهذا في حد ذاته يوجّه السلوك الاجتماعي نحو خياراتٍ جديدة على مستوى الانتخاب السياسي. بعد انتهاء الثورة الليبية صعد التيار الإسلامي بقوة ويكفي أن بعض أجنحة تنظيم القاعدة تغولت في الجيش بل وفي الجهاز السياسي الليبي. أن يأتي محمود جبريل الرجل الحداثي ثم يهزم الإسلاميين في طرابلس وبنغازي فإن هذه بقدر ما هي مفاجأة بقدر ما هي معادلة جديدة في مسار الاختيار السياسي بدول ldquo;الربيع العربيrdquo;. بطبيعة الحال هناك عوامل سياسية ونجاحات انتخابية يمثلها تحالف محمود جبريل، لكن الأساس الذي ينبغي أن نبحثه يتلخص في سؤال: لماذا فضّل الناخب الليبي تيار الحداثة على تيارات الإسلاميين؟! عانى الشعب الليبي من العزل والتهميش على مدى أربعين سنة، وذلك باسم الكتاب الأخضر، أو باسم نظام اللجان الشعبية الفاشل، أو باسم العروبة والصمود وثورة الفاتح من سبتمبر، وخلال نصف قرن لم ير الليبي الحياة ولم يستمتع بمباهج المعرفة، وحين التقيتُ محمود جبريل رأيتُ أن من أبرز ما يشغله هو ldquo;التنميةrdquo; لديه رؤية للتنمية فريدة، وأخص بالذكر التنمية المعرفية. تحتاج ليبيا بالفعل إلى رؤية تنموية تؤسس لبنية تحتية مفقودة. حماقات القذافي وممارساته لا تختلف كثيراً عن برامج المتطرفين الإسلاميين في حال وصلوا إلى الحكم، حتى إن اختلف المنطق أو الأسلوب أو اختلفت الحيلة. الليبرالية أو الحداثة أو الدولة المدنية في حال كانت هي فعلاً الخيار الليبي فإن ليبيا ستدخل عهداً يتجاوز إرث القذافي من أساسه. وهو الذي حارب الليبراليين والمدنيين ولم يدع لهم موطئ قدمٍ في ليبيا، لأنه كان يريد مجتمعاً من دون تفكير، يريد الناس على ما هم عليه من غياب عن الواقع وانعزالٍ عن العالم. يمكن لليبيا أن تنمو لتكون من أهم الدول في المنطقة في حال تحالفت الثروات البترولية مع الرؤى الاستراتيجية، وحينها يكون النهوض قوياً ومتيناً. مفاجأة ليبيا على قوتها غير أنها تعطينا المؤشر الأكبر أن المجتمع الليبي ملّ من الخطابات الشمولية، وملّ من الخدع السياسية، فهو يريد أن يتواصل مع العصر، وأن يدخل تحديات المعرفة والتنمية، وهذا ما يحتاج إليه الإنسان الليبي في حياته، ملّوا من الخطب الطويلة وخطابات الصمود، إنهم ببساطة يريدون الحياةhellip; نعم هكذا ببساطة يريدون الحياة.