عادل إبراهيم حمد
جاء نظام الإنقاذ الحالي عبر انقلاب عسكري في يونيو 1989. ورغم أن النظام يحمل ذات اللافتة ويجلس على قمته نفس الرئيس منذ ذلك التاريخ وإلى الآن، فإنه مرّ بمنعطفات تبدل عندها كثيراً حتى يمكن القول إن هذا النظام قد شهد انقلابات داخلية لا يقل أثرها عن انقلاب يونيو 89. وأبرز هذه التحولات ما حدث في عام 99 بوقوع المفاصلة بين عراب النظام ومنظره حسن الترابي ومجموعة إسلامية أخرى قادها النائب الأول الحالي علي عثمان محمد طه. استندت إلى قوة الجيش ممثلاً في الرئيس البشير ورفيقيه عبدالرحيم محمد حسين وبكري حسن صالح، وهو الحدث الذي عرف في أدبيات السياسة السودانية بـ(مفاصلة رمضان).. وحدث التحول الهائل الآخر في 2005 بإقرار دستور جديد ينص على التعددية الحزبية ويتيح مساحات أكبر للحريات، وهو الدستور الذي جاء ثمرة لاتفاقية السلام الشامل الموقعة مع الحركة الشعبية.
تحول حسن الترابي بعد المفاصلة إلى معارض، وأسس حزب (المؤتمر الشعبي) الذي يعتبر الآن الأشد حدة بين القوى السياسية المعارضة في الموقف من النظام، ويدعو لإعادة الديمقراطية بكل استحقاقاتها، ويزعم أحياناً أنصار هذا الحزب أن المفاصلة حالت دون إجراءات ديمقراطية كان الترابي ينوي الإقدام عليها، وهو قول يراد به تفسير الدعوة للديمقراطية من جماعة لم تكن ديمقراطية لما كان الأمر بيدها، ولا يجد هذا التبرير الذي يشبه الاعتذار قبولاً، إذ إن إقدام الترابي على انقلاب الإنقاذ يضعف حجة أنصاره وصدقية هذا الزعم، لأن الموقف من الديمقراطية لا يتجزأ، خاصة وأن نظام الإنقاذ في فترة سيطرة الترابي التي امتدت لعشر سنوات كان باطشاً وأظهر من التشدد والقهر ما لا يوحي بتهيئة لمرحلة ديمقراطية، حيث ارتبط النظام في فترة الترابي بالتعذيب والتنكيل والإعدامات. وينعى الآن حزب المؤتمر الشعبي على النظام إجراءات أقل بطشاً مثل الاعتقال. يسارع أنصار الترابي للتخلص من هذا التناقض بالقول إن قرار انقلاب 89 كان خطأ كبيراً. وهذا ما يدعو للتساؤل كيف أن مفكراً كبيراً مثل الترابي (يتفاجأ) بالنتائج الحتمية لنظام شمولي أتى على ظهر دبابة. فإذا كان المفكر الكبير يعلم بحكم تجربته السياسية بالنتائج الحتمية للنظام العسكري، ومع ذلك أقدم على الانقلاب، فهذا يضعه في خانة السياسي غير المسؤول. أما إذا كان الترابي بكل ثقله الفكري والسياسي يحتاج لدرس عملي يتعلم منه ثمار النظام الشمولي فهذا ما يدعو للعجب!
أرجح الاحتمال الأول. أي إن الترابي أقدم على الانقلاب وهو مدرك لعواقبه ومتجاهل لها، تحركه المواجد الشخصية وروح الانتقام أكثر مما يحركه علمه السياسي. هذه صفات شخصية حركت الترابي حين خطط للانقلاب منتقماً وباحثاً عن ثأر شخصي، مؤكداً احتقاره لرموز الديمقراطية الثالثة الذين يراهم دونه مكانة وقدرات.. وهو ذات الدافع الشخصي الذي يحرك الترابي الآن. حركة عمادها السخرية من أهل الإنقاذ والإغاظة وإظهار الشماتة عند كل ضائقة. ولا يملك الترابي غير ذلك بعد أن فشل الرجل الذي أطاح بالديمقراطية أن يقدم نفسه أستاذاً يعرّف الناس بمزايا الديمقراطية ويدعوهم لاستعادتها. وقد حاول الترابي بجرأة يحسد عليها أن يلعب هذا الدور مراهناً على ما اعتبره ضعفاً في ذاكرة الشعب السوداني. ولكنه خسر الرهان. وكسب فقط إشفاق الشعب السوداني الطيب الذي يرى الشيخ في غياهب السجن المرة تلو الأخرى يقتاده تلاميذ الأمس ومن علمهم الرماية والخطابة والانقلاب على الديمقراطية.
وثمة دليل آخر يؤكد أن مفاصلة رمضان التي تمر ذكراها هذه الأيام لم تقف حائلاً دون ديمقراطية كان الترابي على وشك بسطها فوق التراب السوداني. هذا الدليل هو دستور 98 الذي أعده الفقيه الدستوري حسن الترابي، وهو ما عرف بدستور (التوالي) إشارة إلى المصطلح الذي عنى به الدكتور التعددية السياسية، في واحدة من النماذج الدستورية الباهتة وأنموذج قبيح للالتفاف حول التعددية السياسية. وازداد الأمر قبحاً بالترويج الإعلامي لمصطلح التوالي باعتباره (قرآنياً) في استغلال للعواطف الدينية لتمرير أجندة سياسية.
يقودنا الحديث عن مفاصلة رمضان إلى تناول دور الجيش في كل منعطفات الإنقاذ. فالجيش هو الذي أحدث التغيير في يونيو 89، وهو الذي حسم الصراع لصالح النائب الأول عند المفاصلة. فهل يقبل الجيش أن يكون مجرد جسر يعبر عليه الساسة لتحقيق طموحاتهم؟
الواقع السياسي يقول إن الجيش لا يمكن أن يخوض هذه المغامرات الخطيرة بلا مقابل، ولا بد أن ينال نصيبه الذي يكون في العادة نصيب الأسد. ويبدو ذلك واضحاً اليوم في القوة السياسية التي يتمتع بها الرئيس البشير.
راهن الترابي على ولاء العسكريين الإسلاميين للتنظيم الإسلامي، لكن اتضح أن الولاء للمؤسسة العسكرية أقوى من الولاء للتنظيم. ووجد البشير أن الاستقواء برفقاء السلاح أضمن له من الاعتماد على التنظيم الإسلامي. فاعتمد على انتمائه (المهني) الأصيل لا على انتمائه السياسي العارض. وكان رهانه رابحاً. فقد حسم الجيش المفاصلة لمن اعتمد على الجيش. ثم استفرد رموز الجيش في النظام بالسلطة. ولم يعد علي عثمان محمد طه رمز الجناح السياسي يتمتع بذات النفوذ الذي ظهر به بعيد مفاصلة رمضان، كما لم يطل ظهور مدنيين آخرين حاولوا أن يكونوا في الواجهة كبدائل للنائب الأول الذي تراجع دوره.
استفرد الجيش ممثلاً في الرئيس البشير بالسلطة وأصبحت قرارات الحزب الحاكم تمر عبر رضا الرئيس. ورغم أن النظام بعد دستور 2005 اكتسب ملامح ديمقراطية، لكنها ديمقراطية تحت رحمة (رؤية) الرئيس الذي كثيراً ما تصطدم بعقبته آراء وقرارات اكتمل لها الشكل الديمقراطي في مؤسسات حزب الرئيس. فضعفت بذلك المؤسسية في الحزب الحاكم. وفي الدولة.
- آخر تحديث :
التعليقات