عبدالحميد الأنصاري

مع صعود حركات الإسلام السياسي ووصولها إلى السلطة واستحواذها على مقاليد الأمور في مجتمعات عربية أصبحت الفتاوى تثير جدلاً عريضاً، وبخاصة تلك التي تتناول قضايا الشأن العام سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وإعلامياً، أصبحت هذه الفتاوى تشغل المجتمعات وتستنزف جهودها عن قضاياها الرئيسة، وقد ساهمت الفضائيات والمواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي في مزيد من الصخب والجدل حولها. لقد تعاظم الدور السلبي لهذه الفتاوى بانتشار الفضائيات الدينية بحسب انتماءاتها المذهبية والسياسية، فأصبحت لكل طائفة فضائية معبرة عن توجهاتها، كما أصبح لها مفتيها الخاص وجمهورها الذي يستفتيها عبر مختلف وسائل الاتصال بأجر مادي يدفعه المستفتي مقابل اتصاله، وهكذا نشطت ldquo;سوق الفتاوىrdquo; وحققت مكاسب للفضائية والمفتي، فضلاً عن النجومية والشهرة والاستحواذ على الجماهير. ومع اشتداد الطلب المجتمعي على الفتاوى برزت ظاهرة التنافس المحموم بين الفضائيات للاستحواذ على ldquo;نجوم الإفتاءrdquo; ضماناً لجمهور أوسع وإعلانات تجارية أكثر، ومن ثم ارتفعت أجور بعض نجوم الإفتاء الفضائي، وأصبحوا يساومون ويحددون أجوراً فلكية، وهكذا أصبحت سوق الفتاوى تحقق مكاسب ضخمة، وتحولت إلى سلعة خاضعة للعرض والطلب الحماهيري. الفتاوى عامة وعلى مر التاريخ الإسلامي كانت مصدر إثراء وخصوبة للفقه والفكر الإسلامي، وكانت عاملاً رئيساً في حيوية المجتمعات العربية والإسلامية، وساهمت في حل الكثير من المشكلات والقضايا الطارئة والمستجدة، لكن الفتاوى اليوم وعبر الفضائيات وبخاصة تلك المتعلقة بقضايا سياسية أو بنصرة مذهب على مذهب، أو الطعن والتجريح والتشويه للمخالفين، أو تلك التي حرضت الآلاف من الشباب لمقاتلة الأميركيين في العراق فتسببت في مقتلهم ومقتل الأبرياء. ومثلها تلك التي حكمت بالردة والكفر على المثقفين والكتّاب لمجرد أنهم عبروا عن آراء لا تحظى بقبول بعض المفتين الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على العقيدة والدين، وكذلك الفتاوى التي روجت أثناء الانتخابات المصرية، ودعت لعدم التصويت للقبطي والعلماني والليبرالي باعتباره إثماً، وفتاوى حرمت الزواج من فلول الحزب الوطني، وغيرها من الفتاوى التي عمقت الانقسام والفرقة والطائفية، وأفسدت ذات البين وتسببت في صراعات دامية وسقوط ضحايا كثر.

هذه الفتاوى أصبحت اليوم مصدر تأزيم وإشكاليات للمجتمعات والحكومات التي تبدو في حيرة من أمرها لا تعرف كيف تحتوي هذه الظاهرة المقلقة، وكيف تحمي الشباب من انعكاساتها، لقد تضخم دور المفتي الفضائي وبات يعرف كل شيء، ويفتي في كل شيء، فهو اقتصادي يعلم في شؤون البنوك والبورصة والتنمية، وهو سياسي ينافس السياسيين بتصريحاته وتحليلاته السياسية، وهو خبير في الشؤون الدولية يحدد من هو العدو ومن هو الصديق، ويطالب بالمقاطعة الاقتصادية، ولا يتورع عن الخوض في ميادين الطب والعلاج، وهو العليم بقضايا المرأة والفن والثقافة والتربية والتاريخ، يتدخل في اختصاصات الجميع ويغضب ويثور إذا تصدى له أحد بالرد. إن أزمة الفتاوى المعاصرة جزء من أزمة الخطاب الديني والتعليم الديني عامة، ولا يمكن معالجة الأمر إلا بعلاج المناهج الدينية نفسها في مضامينها وبنيتها وآلياتها، وهذا العلاج يتلخص في الانتفاح على البعد الإنساني وعلى الثقافات المعاصرة، وعلى أفكار المجددين المستنيرين من المصلحين، أما العلاجات التي لجأت لها بعض الحكومات لضبط الفتاوى المنفلتة كوضع ضوابط معينة مثل: تجريم الإفتاء بدون رخصة، وقصر الفتاوى على الثقات المؤهلين والمؤسسات الدينية والمجامع الفقهية لمنع التضارب في الفتاوى وحماية المجتمع من البلبلة، ومثل اقتراح بتأسيس جهاز رقابي على الفضائيات يتولى مراجعة الفتاوى المذاعة أو إنشاء مجلس للإفتاءhellip; إلخ. فأتصور أن كل هذه الاقتراحات غير مجدية وغير عملية، فنحن لا نستطيع أن نؤمم الفتاوى في عالم أصبح مفتوحاً، ولا أن نصادر حرية الناس في من يستفتونه، كما لا نستطيع أن نفرض على الفضائيات مفتين نرتضيهم لا ترى فيهم تلك الفضائيات ما يحقق أهدافها في الاستحواذ على الجماهير، كما أننا لا نستطيع تكميم أفواه العلماء.

والفتاوى في النهاية مجرد آراء شخصية منسوبة إلى الشريعة ولا إلزام فيها، ومن حق الناس أن يأخذوا بها أو يتركوها، على أن تعدد الفتاوى لا حرج فيه، فهو من مظاهر السعة والحرية الفكرية وتعدد الخيارات أمام الناس رحمة، لذلك لا أرى العلاج في المنع والمصادرة والرقابة والتأميم والتكميم، فضرر هذه الأمور أكبر من نفعها، كما أن ضرر بعض الفتاوى المنفلتة أو المسيسة أو المحرضة يمكن دفعه بفتاوى أخرى مضادة من جهات معتبرة، لكن العلاج يكون برفع وعي الناس وتبصيرهم وتوجيههم إلى تحمل مسؤولياتهم عن اتخاذ قراراتهم، وتعويدهم على التفكير المستقل في أمور حياتهم بدون الحاجة إلى المفتي إلا في الأمور الفقهية الدقيقة. إن مجتمعاتنا أدمنت الفتاوى واستسهلت الاتصال بالفضائيات في كل صغيرة وكبيرة من أمورها، وكثير من الناس لا يريد تحمل مسؤوليات قراراته، كما لا يفعل طاقاته الفكرية في إيجاد حلول لمشكلاته، ومن أسباب ذلك أن البيئة العامة مشحونة بكثير من التحذيرات والممنوعات والحرمات والتخويفات، من إقدام المرء على أمر خشية الوقوع في الحرام فلابد من الاستناد إلى فتوى عالم حتى يحمي المرء نفسه من الوقوع في الحرام، ولذلك شاع عند العامة ldquo;حطها في رقبة عالم واطلع منها سالمrdquo;، يتكئون عليه لتبرير وتسوير العطالة الفكرية السائدة لدى كثير من الناس. علينا الارتقاء بالوعي العام ليدركوا أن المسؤولية في الإسلام فردية مصداقاً لقوله تعالى ldquo;وكلهم آتيه يوم القيامة فرداًrdquo; ولن تغني الفتوى عنهم شيئاً، ما حاجة الناس إلى الفتاوى في كل صغيرة وكبيرة من أمورهم وقد جاء الإسلام بالقاعدة الذهبية القائلة ldquo;الأصل في الأشياء الإباحةrdquo;، بمعنى أن القاعدة العامة التي تحكم النظم والمعاملات والتصرفات والعلاقات والتنظيمات والمطعومات هي: الإباحة والحل، فلذلك لا يحتاج الناس إلى سؤال العلماء في كل هذه الأمور، وقد وضح الإسلام أمور الحلال والحرام في قوله صلى الله عليه وسلم ldquo;الحلال بيّن والحرام بيّنrdquo;، بل جعل من المسلم نفسه مفتياً لنفسه بأن أعطاه المعيار الذي لا يخطئ، إذ جعل ldquo;ضمير المسلمrdquo; هو المفتي في قوله صلى الله عليه وسلم ldquo;استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوكrdquo;، كما أنه صلى الله عليه وسلم وضح لنا قاعدة الحرام وحددها بشكل دقيق حين قال ldquo;والإثم ما حاك في الصدر وخشيت أن يطلع عليه الناسrdquo;. إذن ما حاجة مجتمعاتنا إلى تهافتها على الفضائيات طلباً للفتوى مع أن ما يقارب من 90% من شؤون المجتمعات قائمة على الحل والإباحة؟! وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين: ldquo;أنتم أعلم بأمور دنياكمrdquo;، أي أعلم من المفتين في مختلف قضايا المجتمع، وبطبيعة الحال نحن لا نريد التعميم في الحكم، فهناك فتاوى يومية صادرة من جهات الإفتاء الرسمية تتعلق بأمور العبادات والمعاملات كالصلاة والصيام والزكاة والحج والزواج والطلاق والميراثhellip; إلخ. والحاجة إليها مستمرة وهو أمر محمود ومطلوب، ولا يثير جدلاً ولا إشكالية، ولكن حديثنا إنما يتعلق بتلك الفتاوى المثيرة للصخب والصادرة من مشايخ نجوم الفضائيات والمواقع الإلكترونية، وتتدخل في أمور سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية وتلبسها ثوباً شرعياً. * كاتب قطري