دبي

في العاصمة المالية بماكو، ينتظر الناس إجراءات عملية تستعيد الوحدة الوطنية للبلاد، وأخرى للتخفيف من وطأة الوضع الاقتصادي المتردي الذي فاقمته القلاقل الداخلية والعقوبات الخارجية... لكنهم فوجئوا بالقرار الذي أعلنه رئيس الجمهورية ديونكوندا تراوري يوم الاثنين الماضي، والذي قلص بموجبه صلاحيات رئيس الوزراء مضيفاً إلى صلاحياته التي لم يستخدمها حتى الآن. فقد تولى تراوري سدة الرئاسة في أبريل الفائت وسط ظرف استثنائي بالنسبة لهذه الدولة الفقيرة الواقعة في غرب أفريقيا والتي يقطنها حوالي 14 مليون نسمة وتتجاوز مساحتها 1٫2 مليون كلم مربع، وذلك إثر سيطرة المتمردين على ثلثي مساحة البلاد، وقيام الجيش بانقلاب عسكري أطاح فيه الرئيس المنتخب توماني توري. لكن تراوري سرعان ما تعرض لاعتداء بدني على أيدي جمهور غاضب من مواطنيه، مما استلزم نقله للخارج لتلقي العلاج، فلم يعد إلى مالي إلا قبل بضعة أيام، فكان أول قرار اتخذه يقضي بانتزاع بعض الصلاحيات من رئيس الحكومة، quot;الشيخ موديبو دياراquot;، عالم وكالة quot;نازquot; الذي اختير لهذا المنصب ضمن ذات السلة التفاوضية التي أوصلت تراوري نفسه لمنصب الرئاسة.

وديونكوندا تراوري، قبل أن يكون رئيساً، هو سياسي مالي معروف، يترأس حزب quot;التحالف من أجل الديمقراطية في مالي الإفريقيةquot;، وقد كان نائباً برلمانياً ووزيراً تولى حقائب عدة، ثم أصبح رئيساً للبرلمان، قبل أن يلتئم حوله إجماع واسع بين القوى السياسية لاختياره رئيسا مؤقتا للبلاد في أبريل الماضي.

وقد ولد ديونكوندا تراوري عام 1942 في مدينة كاتي القريبة من بماكو، حيث تلقى دراسته الابتدائية، ثم انتقل مع عائلته إلى مدنية نارا المحاذية للحدود الموريتانية، وهناك أمضى تعليمه الإعدادي وجزءاً من الثانوي، ثم التحق بمدرسة quot;تراسون دي فوجيرquot; الثانوية في باماكو فحصل منها على البكالوريا (الثانوية العامة) بعد عام واحد على استقلال بلاده عن فرنسا سنة 1960. ثم سافر للدراسة في الجامعات الفرنسية، حيث حصل على شهادة الدكتوراه في الرياضيات. وبعد عودته عُين على رأس المدرسة العليا للمهندسين، وذلك بالتزامن مع انقلاب عسكري بقيادة الملازم quot;موسى تراوريquot; ضد الرئيس quot;موديبو كيتاquot; عام 1968، تحولت على إثره مالي إلى دولة الحزب الواحد متمثلا في quot;حزب الشعب المالي الديمقراطي الاشتراكي القوميquot; بزعامة موسى تراوري.
في تلك المرحلة، بدأ ديونكوندا تراوري ينشط سياسياً ونقابياً في محاربة نظام موسى تراوري، وانضم إلى حزب quot;التحالف من أجل الديمقراطية في مالي الإفريقيةquot;. وبعد فترة طويلة من حكم الحزب الواحد، حصل انقلاب في مالي سنة 1991 أنهى الحكم الدكتاتوري وأنشأ نظاماً ديمقراطياً متعدد الأحزاب. وفي أول حكومة ديمقراطية عرفتها مالي، في يونيو 1992، كان تراوري وزيراً للخدمة العامة والعمل والإدارة والتحديث، ثم أصبح في أبريل 1993 وزيراً للدفاع الوطني، قبل أن يتولى حقيبة الخارجية والمغتربين الماليين والتكامل الأفريقي ضمن حكومة أخرى تشكلت في أكتوبر 1994، وهو المنصب الذي بقي فيه حتى أغسطس 1997. وبعد مغادرته الحكومة، انتخب تراوري في ذلك العام نائباً برلمانياً عن مدينة quot;ناراquot;، وترأس الهيئة البرلمانية لحزب quot;التحالف من أجل الديمقراطية في مالي الإفريقيةquot;. وفي أكتوبر 2000، وبعد رحيل الزعيم إبراهيم أبوبكر كيتا، أصبح تراوري رئيساً للحزب، وقاده نحو نصر تاريخي في الانتخابات البرلمانية لعام 2007، ليتم انتخابه رئيساً للجمعية الوطنية في سبتمبر من ذلك العام، بأغلبية 111 صوتاً، مقابل 31 لـquot;مونتاغا تالquot;، مرشح حزب quot;المؤتمر الوطني من أجل مبادرة ديمقراطيةquot;.

وفي30 يوليو 2011، وافق quot;التحالف من أجل الديمقراطية في مالي الإفريقيةquot;، خلال مؤتمره العام، على ترشيح تراوري لانتخابات الرئاسة المالية لعام 2012. لكن الانتخابات التي كان مقرراً إجراؤها في 29 أبريل الماضي، تعطلت بسبب الانقلاب العسكري غير المتوقع.

فقد شنت حركات التمرد المكونة من قبائل الطوارق والعرب -وهم سكان إقليم أزواد- هجوماً على الإقليم، فكبدت قوات الجيش المالي خسائر فادحة واستولت على المدن الرئيسية. فما كان من الجيش الذي انكفأ إلى العاصمة إلا أن نفذ انقلاباً عسكرياً بقيادة النقيب الشاب quot;سانوجو أمادوquot; وأطاح الرئيس المنتخب quot;توماني توريquot;، يوم 22 مارس 2012. وهو تطور أدانه المجتمع الدولي، كما أدان التمرد المسلح في أزواد، وطالبت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) بعودة الشرعية الدستورية في باماكو، وإنهاء التمرد الأزوادي في أسرع وقت ممكن، ثم قامت بفرض عقوبات ضد قادة الانقلاب العسكري، شملت وقف المعاملات التجارية والمالية، ما شكل ضغطاً غير محتمل على مالي، وهي دولة داخلية تفتقر إلى واجهة بحرية وبالتالي لا تملك أي ميناء للتصدير أو الاستيراد. لكن في أعقاب وساطة قادتها بوركينا فاسو، تم التوصل إلى اتفاق إطاري في 6 أبريل 2012 تُنقل بموجبه السلطة لرئيس الجمعية الوطنية خلال المرحلة الانتقالية مقابل رفع العقوبات التي فرضتها الإيكواس، على أن يتم إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية خلال 60 يوماً. وفي 7 أبريل، عاد تراوري من واجادوجو التي اختارها منفى له عقب الانقلاب، ليتولى سدة الرئاسة في بماكو. وفي اليوم التالي أعلن توماني توري استقالته من مهامه رئيسا للبلاد، ممهداً الطريق أمام الحل الأفريقي. ثم بعد أربعة أيام تم تنصيب تراوري رئيساً للجمهورية بالوكالة، فعينَ quot;الشيخ موديبو دياراquot; رئيساً للوزراء.

لكن في العشرين من مايو، تعرض تراوري لهجوم عنيف من قبل مجموعة غاضبة اقتحمت مكتبه داخل القصر الرئاسي، مُلحقةً به إصابات بالغة حتّمت نقله إلى فرنسا للعلاج، ومنها عاد إلى بلاده في 27 يوليو، ليبدأ الحديث عن العمل على تشكيل حكومة وحدة وطنية بدل الانتخابات التي كان مقرراً لها أن تجري قبل شهرين من الآن، وقبل ذلك الحد من اختصاصات رئيس الحكومة الحالية... هذا فيما يستمر الانهيار الاقتصادي والاضطراب الأمني، ويواصل صغار الضباط العسكريين إحكام قبضتهم على كثير من قرارات الشأن العام!

محمد ولد المنى