عبد الباري عطوان


من الصعب ان يتكهن اي انسان، مهما بلغ من الحكمة والخبرة، بالصورة التي ستنتهي عليها الاوضاع في سورية، ولكن ما يمكن التكهن به هو ان الصراع المسلح الدائر حاليا على الارض سيطول، وان النظام السوري لن يسقط خلال ايام، رغم الانشقاقات التي تعرض لها واحدثت هزة نفسية واعلامية، صعّدت آمال الكثيرين في هذا المضمار.
الذين تدخلوا في هذه الأزمة، خاصة اولئك الذين دفعوا باتجاه عسكرة الثورة السورية، ودعموا المعارضين بالمال والسلاح، لم يتدخلوا من اجل احلال الديمقراطية وحقوق الانسان وتخليص الشعب من نظام ديكتاتوري دموي سلبه كرامته وحرياته، كما انهم لم يتوقعوا ان تستمر، اي الأزمة، لأكثر من اسابيع او اشهر معدودة، وهنا جاء الخطر الاكبر والكارثي في الحسابات.
النظام السوري صمد طوال هذه المدة لأن معظم الانشقاقات التي وقعت في صفوفه كانت اعلامية صرفة، وفي اطار حرب نفسية، ولم تحدث اثرا جديا يضعف النظام ويقوّض اركانه. اسماء كبيرة.. نعم.. ولكنها دون جذور حقيقية او لاعبة اساسية في دائرة صنع القرار.


صحيح ان اربع شخصيات امنية كبرى تشكل عصب خلية ادارة الأزمة، من بينهم وزير الدفاع ونائبه آصف شوكت صهر الرئيس، تعرضوا للاغتيال، ولكن الصحيح ايضا ان هذه العملية ما زالت تتسم بالغموض، ولم ترشح اي تفاصيل عنها، ولم تعلن اي جهة المسؤولية عن تنفيذها، ولم نتعرف حتى هذه اللحظة على العنصر او العناصر التي شاركت فيها، وما هو مصيرها، فهل هي عملية انتحارية، ام عملية زرع متفجرات في القاعة، وكيف تمت؟
جميع السيناريوهات واردة، ولكن لا يجب استبعاد السيناريو الأهم وهو احتمال قيام النظام نفسه، او ابرز اجنحته، بتصفية هؤلاء بضربة استباقية لشكوك في ولائهم، او لتسرّب معلومات من استخبارات خارجية مضادة (روسية مثلا) عن وجود اتصالات غربية معهم لقلب النظام؟
كان لافتا انه بعد تصفية هؤلاء ازداد الجيش السوري شراسة، ونجح في السيطرة على مدينة دمشق، بعد ان كادت تسقط في ايدي الجيش السوري الحر وانصاره، واستعادة الجزء الأكبر من حي صلاح الدين في حلب، ان لم يكن كله، الأمر الذي يذكرنا بتقدم مماثل لقوات المعارضة الليبية بعد اغتيال اللواء عبد الفتاح يونس قائدها السابق، وتوالي سقوط المدن في ايديها ،ابتداء من مصراتة وانتهاء بطرابلس وسرت وبني الوليد.
' ' '
الكفة بدأت ترجح لصالح النظام السوري وحلفائه، ليس لضعف المعارضة وقواتها، وانما لتردد حلفائها خوفا من الخسارة اولا، وللمواقف شبه الانتحارية الداعمة للنظام من قبل الروس والايرانيين والصينيين، واستخدامهم كل ما في جعبتهم من اوراق قوة للحيلولة دون سقوط الرئيس الاسد، حتى الآن على الأقل.
الحماس التركي للمعارضة السورية بدأ يخفت، وتهديدات السيد رجب طيب اردوغان باتت اخف لهجة، ان لم تكن معدومة في الايام الاخيرة، بعد ازدياد عمليات حزب العمال الكردستاني، واستخدامه لخمس محافظات شمال سورية كقاعدة لشنها، وتصاعد الاصوات التركية المعارضة لتورط تركيا في الأزمة السورية، وتسرّب ابناء عن بوادر صراع طائفي بين الاقلية العلوية مدعومة ببعض الفصائل الكردية، والاغلبية السنية.
الادارة الامريكية الحاضنة الأبرز للمعارضة السورية بدت مرتبكة في سياستها تجاه الملف السوري، فهي تريد دعم المعارضة السورية للتسريع بإسقاط النظام، ولكنها تخشى في الوقت نفسه ان تصل الاسلحة الى التنظيمات الاسلامية المتشددة، وتنظيم القاعدة على وجه الخصوص الذي بات من الصعب انكار وجوده على الاراضي السورية.
فعندما يتحدث المقاتلون في صفوف المعارضة في حلب، المعركة الاهم، عن نقص حاد في الذخيرة، فهذا يعني وبكل بساطة ان فرص قوات الجيش العربي السوري النظامي في استعادة المدينة باتت اكبر، والمسألة مسألة وقت لا اكثر.
من الواضح، ومن خلال بعض التقارير الغربية، ان خطة 'اصدقاء الشعب السوري' كانت تتلخص في الاطاحة بالنظام والاستيلاء على ترسانته من الاسلحة النووية، قبل الانتخابات الرئاسية الامريكية، للتفـــــرغ لانجاز هـــــدفين اساسيين، الاول: هو اشعال ثورة شــــعبية في الجزائر تطيح بالنظام الحالي. والثاني البدء في تنـــفيذ الاتـــــفاق الاسرائيــــلي ـ الامريكي بضرب المنشآت النووية الايرانية، بعــــد تحيــــيد العامل السوري، وعزل حزب الله في لبنان ومحاصرته وربما تصفيته عسكريا وامنيا وسياسيا، من خلال هجوم موسع.
فليس من قبيل الصدفة ان يقوم السيد سعيد جليلي ممثل السيد علي خامنئي المرشد الاعلى للجمهورية الاسلامية، بزيارة خاطفة الى كل من بيروت حيث التقى السيد حسن نصر الله زعيم حزب الله، ودمشق للاجتماع بالرئيس السوري بشار الاسد، والتأكيد بأن ايران 'لن تسمح بكسر محور المقاومة الذي تشكل سورية ضلعا اساسيا فيه'.
الحرب الجارية حاليا في سورية هي حرب طائفية، والصراع الدائر فيها هو صراع على السلطة من المتوقع ان يستمر لأشهر، وربما سنوات حتى يستطيع احد طرفيه حسم الأمور عسكريا على الارض لصالحه، ويسلّم الطرف الآخر في المقابل بالهزيمة، ويدفع ثمن هزيمته على غرار ما حدث في ليبيا.
الحلول السلمية جرى قبرها بعد انهيار مهمة كوفي عنان واستقالة صاحبها يأسا وقرفا، وعدم تعيين بديل حتى الآن، في ظل صراع شرس على النفوذ بين القوى العظمى، تطور الى حرب بالوكالة على الارض.
الروس والصينيون الذين انهزموا في العراق وليبيا، وقبلها في افغانستان، لا يريدون ان ينهزموا في سورية، او بالاحرى يريدون ان ينتقموا للخديعة الكبرى التي تعرضوا لها في هذه الدول على يد الامريكان وحلفائهم الغربيين والعرب النفطيين، وهذا ما يفسر استئسادهم في الدفاع عن الاسد ونظامه.
' ' '
العاهل الاردني عبد الله الثاني يمكن ان نوصفه بأنه الترمومتر، او العدسة الأصدق في رؤية ملامح المخططات التي تطبخ للمنطقة، فقد كان اول من حذر من الهلال الشيعي وضرورة اقامة هلال سني في مقابله، وهذه النبوءة التي صدرت قبل ست سنوات تتجسد على الارض، كما انه كان اول من كشف عن وجود ستة آلاف مقاتل يتبعون لتنظيم القاعدة، يعملون على الاراضي السورية.
بالأمس فاجأنا العاهل الاردني بالتحذير من لجوء الرئيس بشار الاسد وانصاره الى المنطقة العلوية واقامة كيان طائفي علوي فيها، وذلك اثناء حديث لمحطة 'سي.ان.ان' الامريكية الشهيرة، وعلينا اخذ هذه التحذيرات بجدية مطلقة، فالرجل لا ينطق عن هوى، وبلاده استضافت قبل شهرين مناورات 'الاسد المتأهب' العسكرية التي شاركت فيها 19 دولة بقيادة امريكا، تحت عنوان التدخل عسكريا لـ'تأمين' مخزون الاسلحة الكيماوية السورية، وهي ايضا التي باتت الملاذ الآمن للمنشقين السياسيين، وربما العسكريين السوريين.
التحذير من كيان علوي هو اول واقوى مؤشر عن مدى جدية احتمال تقسيم او تفتيت سورية على اسس طائفية وعرقية، وهذا يتناقض كليا مع اهداف الثورة الشعبية السورية في اقامة دولة ديمقراطية على جميع انحاء سورية، تتعايش فيها كل الطوائف والأديان والأعراق على قدم المساواة.
سورية تتجه بسرعة نحو سيناريو التفتيت المرعب، وهو سيناريو، اذا ما نجح، سيصل الى الدول التي تستعجل سقوط النظام السوري حتما، فليست هناك اي دولة محصنة، بما في ذلك الاردن وتركيا ودول الخليج والسعودية منها خصوصا، فإذا قامت دولة علوية، واخرى سنية وثالثة كردية ورابعة درزية في ســورية، فتوقعوا قيام دولة الحجاز ودولة نجد ودولة عسير، ودولة الاحساء، وربما ايضا دولة الاقباط فــي مصر.. ولا ننسى لبنان في هذه العجالة ايضا. نظرية أحجار الدومينو التفتيتية قد تكون العنوان الأبرز للمرحلة المقبلة.