بيروت

هناك صورة في جريدة laquo;النهارraquo; في عددها الصادر في التاسع من ايار- مايو 1976. في تلك الصورة، ظهر ميشال سماحة، الذي كان لا يزال عضوا فاعلا في حزب الكتائب اللبنانية يحمي بجسده الشيخ أمين الجميل لدى ترجله من سيارته من نوع laquo;رينج روفرraquo; لحضور جلسة انتخاب الياس سركيس حاكم مصرف لبنان (البنك المركزي) رئيسا للجمهورية. بدا ميشال سماحة، أو laquo;ابو الميشraquo; كمّا يسميه اصدقاؤه ومحبوه، من خلال الصورة، كأنه مجرد مرافق من مرافقي نائب منطقة المتن الشمالي والنجل الاكبر للشيخ بيار الجميل مؤسس حزب الكتائب. كان وقوفه عند الباب الامامي للسيارة لحماية أمين الجميّل بصدره دليلا ساطعا على مدى وفاء من اصبح بعد ذلك، نائبا ووزيرا على تناقض تام مع الفكر الكتائبي ومع كلّ ما يمثله ويرمز اليه آل الجميل وبيتهم القديم في بلدة بكفيا.


التقطت الصورة في الثامن من ايار- مايو 1976 في ساحة البرلمان الموقت في بيروت يوم انتخاب الياس سركيس رئيسا للجمهورية اللبنانية، وذلك قبل خمسة اشهر من نهاية ولاية الرئيس سليمان فرنجية الذي تحوّل طرفا في الحرب الداخلية الدائرة في لبنان.
جرت الانتخابات الرئاسية المبكرة في وقت كانت القذائف تنهمر على المكان الذي انعقدت فيه جلسة لمجلس النواب خصصت للاتيان برئيس للجمهورية. كانت هناك حاجة الى رئيس جديد بعدما قاطع المسلمون اللبنانيون باكثريتهم الساحقة سليمان فرنجية الذي اضطر الى الهرب من قصر بعبدا الرئاسي والاقامة في بلدة الكفور الكسروانية حيث لا وجود سوى للموارنة...
كيف انتقل ميشال سماحة من كتائبي قحّ، أي مسيحي متعصّب للبنان، ثم رئيس لمصلحة الطلاب في الحزب الى احد ممثلي النظام السوري في لبنان، بل احد المنظرين للوجود السوري في البلد والمدافعين عن كل ما يقوم به السوريون أو حلفاؤهم، بمن في ذلك laquo;حزب اللهraquo; الذي لا يرى فيه اللبنانيون سوى لواء في laquo;الحرس الثوريraquo; الايراني؟
الذين يعرفون ميشال سماحة عن قرب ومنذ زمن طويل يقولون ان الرجل الذي اعتقلته الاجهزة الامنية قبل ايام، بعدما سجلت بالصوت والصورة تورطه في عملية تسليم متفجرات واموال بهدف تنفيذ عمليات ارهابية في الشمال اللبناني، بهدف اثارة فتنة سنّية- مسيحية، تحوّل اسيرا للمخابرات السورية.
حصل ذلك على دفعات. ولكن في اساس التحوّل شعور ميشال سماحة ان هناك حدودا لا يستطيع تجاوزها ما دام عضوا في حزب الكتائب الذي شعاره laquo;الله، الوطن، العائلةraquo;. كان عليه اثبات ولائه للعائلة كلّ يوم خصوصا انه من قرية الخنشارة التي لا تبعد سوى خمسة كيلومترات عن مسقط راس آل الجميّل في بكفيا.
في البداية، عندما اكتشف ميشال سماحة ان انتماءه للحزب، بتأثير من والدته قبل ايّ شيء آخر، يرسم له خطوطا حمر لا يستطيع تجاوزها، لجأ الى حماية كريم بقرادوني، الاكبر منه سنّا، والذي كان منضويا تحت جناح يمثلّه الشيخ موريس الجميّل، وهو ابن عمّ بيار الجميّل. كذلك، كان بيار الجميل متزوجا من شقيقة موريس السيدة جنفياف والدة امين وبشير الجميّل.
كان موريس الجميّل نائبا عن المتن، فيما بيار الجميّل نائبا عن بيروت وقد وجد بعض شباب الحزب ضالتهم في الشيخ موريس الذي كان يمتلك فكرا سياسيا متقدما مبنيا على فكرة تحقيق العدالة الاجتماعية. انضم ميشال سماحة، الشاب الطموح، الى مجموعة موريس الجميّل الذي توفي في العام 1970.


بعد 1970، لجأ ميشال سماحة بمعية كريم بقرادوني، الى الانضواء تحت جناح امين الجميّل الذي خلف خاله موريس نائبا عن المتن. اثر ذلك، راحا يبحثان عن طريق خاص بهما. فقد اكتشف بقرادوني، الارمني، وسماحة الكاثوليكي، ان على كلّ منهما ان يرسم مستقبله على طريقته. ما لبث بقرادوني ان انضمّ لاحقا الى فريق بشير الجميّل مع صعود نجم الاخير. اما سماحة، فقد اختار طريق الاجهزة اللبنانية التي تلقفته باكرا في اثناء وجوده في الجامعة اليسوعية في بيروت حيث درس ادارة الاعمال.
في مرحلة ما قبل اندلاع الحرب في لبنان في نيسان- ابريل 1975، بقي ميشال سماحة قريبا جدا من كريم بقرادوني، لكنه كان ايضا قريبا جدا من الاجهزة اللبنانية التي شاركت في الدفع في اتجاه الصدام مع المسلحين الفلسطينيين بتشجيع سوري. بعد ذلك افترقا موقتا ثم التقيا عند الاجهزة السورية في مرحلة ما بعد اغتيال بشير الجميّل في الرابع عشر من ايلول- سبتمبر 1982.
ما اخذ ميشال سماحة الى سورية، الاجهزة الامنية اللبنانية اوّلا، ثم علاقته برجل اعمال سوري، كان مقيما في لبنان قبل ان ينتقل الى لندن ومنها الى باريس حيث استقر نهائيا. جمع رجل الاعمال هذا، وهو مسيحي، ثروة كبيرة من خلال تجارة النفط.
وبدأ التعاطي بالنفط عبر شركة اسسها عدنان خاشقجي، رجل الاعمال السعودي الذي كان في مرحلة ما مليارديرا. والذي اسهم في ثراء رجل الأعمال السوري والذي ما لبث، بسبب مصالحه الشخصية، ان انتقل من تأييد البعث العراقي الى احد رجال النظام السوري في فرنسا. هناك اغنياء البعث مثلما هناك اغنياء الحرب. كان رجل الاعمال السوري المغرم بالسياسة والاعلام هذا احد هؤلاء.
في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، اصبح ميشال سماحة رجلا معترفا به في لبنان بصفة كونه على علاقة بأطراف عربية واوروبية واميركية عدة. اختار في الواقع طريقه بعدما صار من اللصيقين برجل الاعمال السوري الذي قرّبه من الاجهزة الفرنسية.
حاول امين الجميّل في بداية عهده في العام 1982 الاستفادة من العلاقات السورية لميشال سماحة. اكتشف فجأة ان الرجل مرتبط بالسوريين اكثر بكثير مما يجب ولا يصلح باي شكل للعب دور الوسيط. اكثر ما اكتشفه امين الجميّل انه لم تعد لميشال سماحة اي علاقة بحزب الكتائب وفكره. وفي السنة 1985، تبيّن ان ميشال سماحة ممثل للنظام السوري في لبنان وانه ليس سوى اداة من ادواته. فقد دعم الاتفاق الثلاثي الذي ارادت دمشق فرضه في لبنان بعدما استوعبت ايلي حبيقة القائد الجديد لـ laquo;القوات اللبنانيةraquo; الذي كان الى ما قبل فترة قصيرة محسوبا على الاسرائيليين.
ترك ميشال سماحة لبنان بعد فشل النظام السوري في فرض الاتفاق الثلاثي الذي كان يعني اول ما يعني الانتهاء من رئاسة امين الجميل قبل انتهاء ولايته في العام 1988. وخلال وجوده في فرنسا، انصرف ميشال سماحة الى تعزيز علاقته بالنظام السوري، خصوصا بالعماد حكمت الشهابي رئيس الاركان واحد اهم رجالات النظام في عهد حافظ الاسد. تحوّل ميشال سماحة الى ضابط الاتصال بين المخابرات الفرنسية والمخابرات السورية بدعم من الشهابي. ومع حلول السنة 1989 وتوقيع اتفاق الطائف، عاد ميشال سماحة الى بيروت حيث تولّى وزارة الاعلام مرتين كما انتخب نائبا عن المتن لدورة واحدة.


في السنة 2000، نقل ميشال سماحة ولاءه من حكمت الشهابي الى بشّار الاسد الذي كان يستعد لخلافة والده (حصل ذلك في شهر حزيران-يونيو من تلك السنة). اضافة الى ذلك، كان بشّار يعتبر نفسه في مواجهة مع الثلاثي حكمت الشهابي- عبدالحليم خدّام- غازي كنعان.
عرف ميشال سماحة، بدعم من صديقه رجل الاعمال السوري، من اين تؤكل الكتف. وكوفئ على انضمامه في الوقت المناسب الى فريق بشّار بان اصبح مسؤولا عن جزء من عملية تلميع صورة النظام في اوروبا والولايات المتحدة عن طريق شبكات اقامها في باريس وصحافيين اميركيين مرموقين اقام علاقات من نوع معيّن معهم. اصبح جزءا لا يتجزأ من آلة النظام السوري، خصوصا في مرحلة ما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. دفع ذلك بالاميركيين الى فرض عقوبات عليه على غرار العقوبات التي فرضت على عدد من كبار المسؤولين السوريين.
ما نشهده حاليا بداية النهاية السياسية لشخص لم يعرف ان هناك حدودا لا بدّ من التوقف عندها. لم يعرف حتّى ان هناك حدودا للانتهازية. مثلما حاول في العام 1976 حماية امين الجميّل بجسده وصدره، ها هو في السنة 2012 يسعى الى عمل كل المطلوب منه، لعلّ وعسى يجد النظام السوري مخرجا لبنانيا لازمته... حتى لو كان عنوان هذا المخرج فتنة مسيحية- سنّية في شمال لبنان!
كان ميشال سماحة رجل المبالغات بامتياز. يبدو ان مبالغته الاخيرة ستودي به، خصوصا انه لم يدرك ان زمن النظام السوري قد فات...