مالك التريكي


الفارق بين 'الفيلم' البذيء وكاريكاتور مجلة 'شارلي هبدو'، أن الذي ما هو بفيلم مخلوق فرنكنشتايني من إنتاج متطرفين يؤمنون بالأساطير ويقصدون النكاية والاستعداء. أما الكاريكاتور فهو تعليق إيديولوجي (غير كاريكاتوري) من إنتاج صحافيين يؤمنون بـ'حرية التعبير' ويقصدون التفكّه والاستخفاف.

يقول رئيس تحرير شارلي هبدو، جيرار بيار، إن الكاريكاتور يندرج في إطار تغطية أهم أحداث الأسبوع المنقضي، وهذا هو المتوقع من مجلة إخبارية. ويشرح أن الجميع يعلم أن 'أسخن أحداث الأسبوع المنقضي هو، من دون أي رغبة في اللعب على الكلمات، ذلك الفيلم الأحمق (...). إن عملنا هو التعليق على الأحداث، لا سيما عندما تهم مسألة لها علاقة مباشرة بخطنا التحريري الذي يناهض جميع الديانات إذا هي اقتحمت المجال العام'. وعندما قيل للرجل إن وزير الخارجية لوران فابوس قد تساءل عن مدى صواب هذا القرار التحريري 'في السياق الحالي'، أجاب: 'إننا لا نسعى للاستفزاز (...) لم نفعل سوى أداء عملنا'، بل إن رئيس التحرير يستهجن دعوة ممثلي الجالية المسلمة في فرنسا إلى 'عدم صب الزيت على النار'، ويجيب: 'من الذي يصب الزيت على النار؟ بل من يضرم النار؟ إنهم ليسوا الرسامين المساكين بأقلامهم (...). ما هو الأخطر: رسم كاريكاتوري (...) أم فيلم غبي أم سفارات محروقة وعشرات من الموتى؟'.
نموذج تطبيقي عما يسمى بحوار الطرشان! هكذا يبلغ الغلو في التزمت للإيديولوجيا العلمانية (في صيغتها 'اللائكية' برنتها الفرنسية المفخمة حد الانتفاخ الصبياني) بالرجل حد إنكار حقيقة أن ما ينشر في الإعلام يمكن أن يكون له عواقب عملية لا تنحصر في المطالبة بحق الرد في صفحة بريد القراء، أي أن رئيس التحرير يفكر على هذا الوجه السديد: بما أن الإعلام ينشر نصوصا ورسوما (مجرد علامات)، فهل يمكن لبشر أن يتهمه بأي شيء يقع في نطاق الأعمال والوقائع؟ المعنى: بما أن الإعلام منخرط في الأقوال، لا الأفعال، فبأي منطق يمكن اتهامه بالمسؤولية عن ردود الأفعال؟

يا لسلامة التفكير والتقدير! يا لسذاجة المؤمنين بحرية التعبير! يا لبراءة المسلّمين بقداسة الكاريكاتور! ثوب فضفاض من المنطق الصوري المخيط بحبل غليظ! حكمة باهرة تذكّر بتلك القصة في 'بخلاء الجاحظ' عن ركاب القارب الذين يدعون عابرا على شاطئ النهر إلى أن يقاسمهم طعامهم، فلما يهم إلى تلبية الدعوة يزجرونه قائلين ما معناه: على رسلك يا هذا، إنما بادرناك بقول... فلا تبادلنا إياه بفعل، بل بمجرد قول مثله!
لقد صور الكاتب لوران جوفران الموقف بوضوح عندما قال، بعد أن تساءل إن كانت مسألة الحق في حرية التعبير تستحق كل هذه المخاطرة، إن رغبة المجلة في البرهنة على أنها حرة في باريس قد مضت بها إلى حد تعريض مواطنين في تونس أو مصر أو سواهما للخطر! وأضاف أن المجلة قد وضعت نفسها بذلك في خندق القس تيري جونز (الذي يتقرب إلى السماء بحرق المصاحف) ومن لف لفه من متعصبين ومتطرفين أقباط وإنجيليين، حتى لكأنها في حلف مع هؤلاء الدوغمائيين.
أما المسألة التي أحسن جوفران طرقها فهي تلك التي سماها 'العواقب التكتيكية' لنشر الكاريكاتور، حيث يقول إن مصلحة الديمقراطيين في فرنسا وفي البلاد الإسلامية إنما تكمن، إذا فهمت على الوجه الصحيح، في التمييز 'بين المؤمنين المسالمين المتسامحين وأقلية من متزمتي الإسلام السياسي'. لكنه يستدرك بأن الكاريكاتور يحدث الأثر العكسي، ذلك أنه يؤدي، 'بصدمه للأغلبية الساحقة من المؤمنين'، إلى إظهار المتطرفين بمظهر الذائدين عن الإسلام - وهكذا ينتهي بخدمة قضيتهم ومآربهم الدعائية. أما إذا قيل إنه 'لا علاقة لمجلة ساخرة بمثل هذه الاعتبارات التي هي من صميم الجغرافيا السياسية (...) وإنه لا ينبغي الخلط بين 'شارلي هبدو' ووزارة الخارجية'، فإن الكاتب يرد بأنه إذا كانت الحرية نعمة لا تقدر بثمن، 'فكذلك هو شأن الذكاء'...
على أن أعجب تعليق قرأته، لأنه من الالتباس بحيث لا يشي عن موقف صاحبه من مسألة الموازنة بين الحرية والذكاء، هو قول الشيخ التسعيني جان دانيال، أحد أعرف العارفين بشؤوننا، إنه 'لم يعد في مستطاع الحكام العرب التحكم في 'متدينيهم، ولا أتباعهم ولا أبنائهم'، فما الذي يوحد جميع هؤلاء؟ 'لا يمكن التعويل على روح النكتة' لدى أي منهم.