رياض نعسان أغا
لم تلق مبادرة الأسد في خطابه الأخير ما يفتح آفاقاً لحلول سياسية للقضية السورية التي باتت بالغة التعقيد، لدرجة أن الإبراهيمي ذاته وجدها فرصة ضائعة، مع أننا كنا نتوقع أن تأتي المبادرة نتاج تفاهم دولي يحققه الإبراهيمي، ويبدو أن أهم نقطة للاختلاف هو التعديل (السيادي) الذي لم يشر إلى مسألة تنحي الرئيس وهي مفتاح الحل، وإلى تشكيل حكومة مصالحة (كاملة الصلاحيات) بمعنى ألا تخضع للنظام الرئاسي الذي يجعل رئيس الجمهورية ذاته رئيساً للوزراء، كما هو الأمر في سوريا، وأعتقد أن المعارضين (شبه الموالين) الذين طرحت عليهم المبادرة لم يقبلوها، كذلك لأن صيغتها تجعلهم يرددون قول المتنبي quot;فيك الخصام وأنت الخصم والحكمquot;، وبالطبع لم يكن المعارضون المتمسكون برفض الحوار مع النظام مدعوين للمبادرة، وقد أعلن الخطاب أنها لا تتجه إليهم وقد سماهم quot;عبيداً للخارجquot;، كذلك لم يكن الثوار والمسلحون من الجيش الوطني الحر وهم ضباط منشقون عن الجيش النظامي معنيين بالمبادرة، لأنهم وُصفوا بأنهم عصابات إرهابية لابد من الاستمرار في سحقها.
ويبدو أن من بين أسباب الرفض تجاهل المبادرة وجود ثورة شعبية عارمة في سوريا، فقد سمي quot;الربيع العربيquot; الذي غيّر خمسة نظم بأنه فقاعة صابون، والمفارقة أن الرئيس اعترف بالثورة يوم اندلاعها، وأثنى على مشروعية مطالبها، واستقبل الوفود الشعبية التي شكت له أن أجهزة الأمن تطلق النار على الناس عامة وتقتل المتظاهرين السلميين، وتعتقل أبناءهم، و كان يعبر أمامهم عن رغبته في تحقيق إصلاح ينهي هذا الخلل الذي سماه أخطاء فردية ووعد بتقديم المخطئين للقضاء، وبالطبع لم يفعل. وحين لبَّى بعض المعارضين دعوته إلى الحوار في منتجع صحارى، بقيادة فاروق الشرع الذي تفاءلنا بمقدمته السياسية الناضجة التي ألقاها، كانت العمليات العسكرية والاعتقالات تتصاعد في حمص في ذات اللحظة، ولا ننسى، وقد عشنا الأحداث لحظة بلحظة، أن تفاهماً حدث في حماة بين المحافظ والأمن يسمح بالتظاهرات السلمية، وخرج الناس بمئات الألوف مطمئنين، بل حملوا معهم أطفالهم كأنهم ماضون إلى نزهة على ضفاف العاصي، وعاشوا يوماً احتفالياً بهيجاً من أعراس الحرية، ولكن الفرحة لم تكتمل، فقد فوجئ الناس بنقض الاتفاق، وفوجئ المحافظ نفسه بأن أجهزة الأمن خرجت من مكمن مجهّز وأطلقت النار عشوائياً، وقتل العشرات، وعرفنا أن الرئيس استاء كثيراً من هذا التصرف، كما استاء المشرف الأمني اللواء بختيار يومذاك، وأمر الرئيس بنقل الضابط الذي أمر بإطلاق النار على المسالمين، وتم نقله ليلاً لتقديمه للمحاكمة وأعلن الخبر، ولكن كانت المفاجأة في الصباح الباكر هي قرار الرئيس بإعادة الضابط إلى عمله الأمني في حماة، وعزل المحافظ الذي أراد الحفاظ على سلمية المظاهرة وسلمية احتوائها.
أذكر هذا لأن سلمية الثورة غابت عن الذاكرة تماماً في الخطاب، وهذا يذكرني بسوء التشخيص منذ أن تم ترويج أن ما يحدث هو مؤامرة كونية كبرى، ولابد من مواجهتها بالعنف.
كان الأكثرية من رجال النظام يدركون أنها ليست مؤامرة وأن بالوسع تقديم تنازلات ممكنة لاحتواء الموقف، لكنهم صمتوا خوفاً من غضبة تجعلهم شركاء في المؤامرة، وكان تشخيص الحالة من قبل الرئيس الطبيب قد جاء بالعلاج خاطئاً من أول مواجهة عنف حدثت أمام المسجد العمري في درعا.
ثم اتسعت التظاهرات، ووصلت إلى دوما وقرى ريف دمشق ودرعا التي ازداد فيها اللهيب اشتعالاً.
أذكر أنني مضيت سريعاً إلى أحد كبار المسؤولين حول الرئيس، وهو أكاديمي ناضج، وسألته عن فظاعة ما يحدث؟ قال لقد كشفنا السر بحمد الله، اليوم ضبط الأمن سيارة quot;سوزوكيquot; ووجدوا مع سائقها سبعة عشر مليون ليرة، ادعى السائق أنها ثمن بيت باعه، ولكنه في الحقيقة يأخذها ليوزعها على المتظاهرين في ريف دمشق ودرعا وبقية المحافظات.
دُهشت من هذه السذاجة، وظننت أن الرجل يمزح أو يتهكم، وسألت ببراءة ساخرة، أهي بالدولار أم بالليرة؟ قال بالليرة؟ قلت وكم سيكون نصيب المتظاهر؟ ومظاهرات اليوم فيها عشرات الآلاف والخروج فيها ثمنه قتل، أو جرح، وإعاقة، أو اعتقال أهون منه الموت؟ قال هذا ما قالته أجهزة الأمن، وسأعترف لك بأن الرئيس غير مقتنع بقدرتها على مواجهة ما يحدث، ولذلك قرر أن ينزل الجيش إلى درعا، بهت، ودهشت، قلت: أينزل الجيش لمقاومة مظاهرة يحمل فيها الشباب أغصان الزيتون؟ ستكون حرباً إذن! إذا دخل الجيش مدينة هدمها، أيكون القاتل الجيش والمقتول الشعب؟ قال: النظام مهدد ولابد من الدفاع عنه، قلت: هل تجرؤ أن تقول للرئيس إن الطبيب حين يخطئ التشخيص، يعطي لمريضه علاجاً خاطئاً يودي بحياته؟
ولن أذكر الآن بقية ما سمعت من تشخيصات وهمية من مسؤولين آخرين أقل ما كان فيها اكتشاف أن وراء كل هذه الفتنة المحامي حسن عبدالعظيم، واضطررت على رغم التوتر أن أضحك، قلت: عبدالعظيم وتحتاجون إلى جيش؟ وأوضحت رأيي بأنها ثورة شعبية اشتعلت في تونس، وامتدت إلى ليبيا واليمن، ومجرد وصولها لمصر يعني اشتعالاً في سوريا، ولابد من تلبيتها سريعاً قبل أن تشمل سوريا كلها، ومطالبها هي ذات مطالبنا نحن وزراء الحكومة، نريد تخفيف القبضة الأمنية عن رقاب الناس quot;ألا ترى أنك أنت في موقعك الكبير قبل أن تحدثني طلبت أن نفك بطارية الهاتف؟ وعينك لم تبارح أجهزة أخرى لاشك أنها تتنصت عليكquot;؟
قال كيف سنحمي النظام إذن؟ قلت بإنهائه وتفصيل نظام جديد يلبي طلبات الشعب، بأن يحل الرئيس الحكومة، ويحل مجلس الشعب ولم تبق لولاية المجلس سوى فترة بسيطة، ويدعو إلى انتخابات برلمانية حرة، دون حزب laquo;البعثraquo; ودون laquo;الجبهةraquo; التي باتت عبئاً على النظام، وهكذا يختار الشعب ممثليه إلى برلمان منتخب، وتبقى بيد الرئيس صلاحية حله إن جاء معادياً له، وأما الحكومة فلتكن تكنوقراط خالصة، لا أحزاب فيها، واقترحت أسماء محترمة من المعارضة للدخول فيها (ولم تكن الدماء يومها قد صارت طوفاناً) قال، تريد أن نعدم النظام بأيدينا؟ قلت نبدله، بوسع الرئيس أن يستغني عن ثمانين شخصاً فقط، هم مجمل القيادة ومجلس الوزراء وكبار القادة العسكريين والمحافظين، ويأتي بأناس أكفاء جدد ولن تخرب مالطا، وبالطبع يجب أن يحيل بعض القيادات الأمنية والعسكرية التي بادرت بإطلاق النار إلى القضاء كما وعد، هذا ربما يطفئ شعلة الغضب، ولا تنسى أن الناس لم يطلبوا إسقاط النظام بعد لكنهم سيطلبونه بعد أيام، ومن المفيد أن يخطب الرئيس الآن ويقول للناس quot;أنتم تطلبون إصلاح النظام، وأنا سأعترف لكم بأننا فشلنا في إصلاحه، لذلك أعلن لكم أن شعارنا معكم اليوم هو إسقاط النظام والبدء بتشكيل نظام جديد يلبي تطلعاتكمquot; صدقني قد يحمله الناس على الأكتاف، ولا يفوتنك أن الناس يشيعون اليوم أن الرئيس ليس هو صاحب القرار ولا يملك الأمر كله، وهذا ذكاء من شعبنا فهو يحث الرئيس على أن يتبرأ، لأنهم يريدون حلاً تتجنب فيه البلاد الدم والدمار والفوضى، وبوسعه أن يلتقط هذه الشائعة بذكاء ويبني عليها. قال صاحبي هذا الحل الذي تقترحه سيعني تنحي الرئيس مستقبلاً، وعدم فوزه برئاسة ثالثة، ما الضمانة في أن الناس سينتخبونه عبر انتخابات حرة وقد اهتزت صورته أمام الناس؟ هل ترى أن هناك إمكانية لتحسين الصورة؟ قلت إنه زجاج لا يعاد له سبك.
خرجت من مكتب صديقي، وأنا أدرك أن البلد في طريقه إلى الضياع بسبب غياب الحكمة، وتذكرت كثرة من الأطباء خرجوا من غرف العمليات يقولون لأهل المريض: نجحت العملية، لكن المريض مات.
التعليقات